الناصرية.. الدماء التي تكتب الوجع الدفين

مأتمُ طويل لا يريد أن ينتهي، وأحزان دفينةُ تنبعثُ من أزقة منسية.

هنا في جنوب العراق، الملتهب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وفي بقعة قريبةً من الربع الخالي، حيث يجفُ ضرع الفرات، وتنبتُ نبتة البلوى التي قال عنها الجواهري، أنها تنبتُ وسط القحط، قحط السماء، وسخط الأرض التي تفتحُ فاهها لتبتلع كل شيء، ثمة مدينة اندكت كرمح في ظهرِ نهر، تسلل إليها الباحثون عن وطن يلمُ شتاتهم، ويقيهم من ضياعات طويلة، ولكن وياللأسف، لم تصمد هذه الأمنيات طويلًا، فهذه المدينة كانت ولا تزال عاصمة للوجع، ومكان لتقديم القرابين لإلهة أور الذين استوطنوا هذه البقعة التي بقيت خديجًا بين سهل خصيب، وصحراء لا تنقطعُ عنها ألسنة الرمل الساخن.

في هذا المكان، تقدم المدينة قرابينها، لتنال قسطاً من حياة متخيلة، لكنها لا تنال سوى نسيان أزلي، لا يريد احد ان ينفض عنها رمل الصحراء الغامق، ولا تريد هي ان تفك أسرها السرمدي، ولا تقطع عن يديها أغلال القداسات، ولا تنزع عنها أفكار الفناء، ليخلد الآخرون.

الناصرية، الآن مدينةُ للفاجعة، لا شيء فيها سوى صوت نواح منقطع، شجي، مفجع، لا آثر فيها لحياةٍ مبتهجة، فلقد طوت تلك الأوراق المضطربة، لتكتب أخرى بمداد من دماء قانية، لفتيةً أخذتهم ايادي الموت عنوةً الى حيث يكره الجميع ان يذهبوا، مات الناس هنا من إجل السياسة ايضاً، اي لعنة هذه التي حلت بأرضك يا اورنمو، وأي فجيعة يعزفُ قيثارتكِ يا عشتار.

مأتمُ طويل لا يريد أن ينتهي، وأحزان دفينةُ تنبعثُ من أزقة منسية، كل شيء يشير هنا الى ما حدث، لا أحد يجرؤ على تقليب أوجاع الأخر، حتى لا ينكئ جرحه وهو لا يعلم، الأوجاع متشابكة حد الإختلاط، والمأساة تدونها فجيعة الثواكل الناحبات وهن يرددن بصوت قادم من عمق الزمن، ماذا تريدين منا أيتها السماء أكثر من هذا الذي قذفتهُ ايادي الغضب نحوك!