بريكست في صلب الأزمة البريطانية

حرب اوكرانيا وجائحة "كوفيد – 19" زادتا الوضع سوءا. لكنّ بريكست يبقى في أساس الأزمة البريطانيّة المركّبة.

رحلت ليز تراس وجاء ريشي سوناك الذي سيجد نفسه، هو الآخر في مواجهة إرث بوريس جونسون. وهو إرث من نوع غير قابل للحمل في ضوء العجز البريطاني عن إيجاد بديل من الإتحاد الأوروبي. يقع العجز الذي تسبب به الذين دفعوا من أجل الخروج من الإتحاد الأوروبي في ما سمّي بريكست، في صلب الأزمة البريطانية. يكشف عمق الأزمة أنّه صار مطروحا مستقبل المملكة المتحدة وما اذا كانت ستبقى موحدة ودولة من الدول المتقدمة في العالم.

 استقالت ليز تراس بعد 44 يوما في موقع رئيس الوزراء كاشفة مدى عمق الأزمة التي تعاني منها بريطانيا. تدفع المملكة المتحدة، حيث وقف اكثر من نصف الناخبين بقليل مع الخروج من الإتحاد الأوروبي، غاليا ثمن نتائج الاستفتاء الذي اُجري في 2016. ترجمت حكومة بوريس جونسون نتائج الإستفتاء على ارض الواقع في الشهر الاوّل من السنة 2020. صار البريطانيون غرباء في أوروبا والأوروبيون غرباء في بريطانيا.

نفّذ جونسون بريكست، أي خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي مطلع 2020... لكن ليس في المملكة من هو مستعد لمواجهة الحقيقة التي اسمها خدعة ذلك الإستفتاء الذي استغله في حينه سياسيون شعبويون، أكثرهم من اليمين المتطرّف، لا يمتلكون أي رؤية استراتيجية مرتبطة بالواقع البريطاني.

ليست الإستقالة السريعة لتراس واللجوء إلى سوناك سوى تعبير عن كارثة خلفها بريكست. تظهر الآن على الأرض النتائج التي ترتبت على الإستفتاء في غياب كامل لرجال دولة قادرين على القيادة في بلد كان في الماضي عظيما. في مرحلة معيّنة وقبل الإستعانة بسوناك، كان هناك حتّى تفكير، داخل حزب المحافظين، بالعودة إلى بوريس جونسون. في ذلك قمة الإفلاس. لم يكن بريكست بالنسبة إلى جونسون سوى وسيلة للوصول إلى موقع رئيس الوزراء حيث لاحقته الفضائح الواحدة تلو الأخرى فاضطر إلى الإستقالة.

لا وجود إلى الآن لنقاش جدي في شأن بريكست. تهرب بريطانيا من أزمتها ومن تلك الكلمة. يعود ذلك إلى غياب سياسيين، من الحزبين الكبيرين (المحافظون والعمال) على استعداد لتحمّل مسؤولياتهم والإعتراف بأنّ الإستفتاء على الخروج من الإتحاد الأوروبي كان فضيحة. قد يكون الأهمّ من ذلك كلّه أنّ العنجهية البريطانيّة تحول دون التطرّق إلى كارثة بريكست وكيفية العودة عن قرار أتخذ في استفتاء شعبي لم يكن المواطنون يعرفون ما هي أبعاده.  

يغيب الكلام عن بريكست تفاديا للإعتراف بأن ظاهرة الازدهار البريطاني، عائدة في معظمها، الى ان العلاقة باوروبا حوّلت لندن الى اكبر مركز مالي عالمي. حصل هذا التطور، بعد العام 1979، بفضل المرأة الحديد التي اسمها مارغريت تاتشر وفي ظلّ حسن إدارة للعلاقة البريطانيّة مع الإتحاد الأوروبي بغية الاستفادة منها إلى أبعد حدود.

مع بدء تطبيق بريكست، تراجع موقع لندن. نزحت شركات مالية ومصارف عالمية الى مدن أوروبية أخرى في دول مثل المانيا وفرنسا وحتّى سويسرا التي ليست عضوا في الاتحاد الاوروبي.

مثلما انّ بوريس جونسون كان الطفل المدلّل لعائلته التركيّة الأصل، كانت المملكة المتحدة الابن المدلّل للاتحاد الاوروبي. لم تدخل بريطانيا منطقة العملة الاوروبية الموحّدة (يورو) ورفضت الانضمام الى الاتفاق في شأن التأشيرة الموحّدة (شينغن) ورفضت الرضوخ لاتفاقات أخرى اقرّت في اطار الاتحاد الاوروبي.

لم تعد مشكلة بريطانيا في إيجاد رئيس جديد للوزراء. صار مطروحا ما العمل ببريكست؟ ليس من يريد طرح مثل هذا السؤال في وقت تبحث معظم المؤسسات البريطانيّة، خصوصا المطاعم والفنادق والمقاهي عن موظفين من ذوي الكفاءة. هؤلاء كانوا يأتون من بلدان الإتحاد الأوروبي الذين صاروا فجأة يحتاجون إلى إجازات عمل بعدما كانوا في الماضي يعاملون معاملة المواطن البريطاني. تحتاج بريطانيا في مواسم زراعيّة معيّنة إلى 70 ألف عامل، لكنها لم تعد تجد الآن سوى 40 ألفا من هؤلاء... بسبب بريكست!

بين حين وآخر يشاهد المقيم في لندن رفوفا فارغة في هذا الـ"سوبرماركت" أو ذاك. بات استيراد مواد غذائية وبضائع معيّنة في حاجة إلى إجراءات خاصة. إضافة إلى ذلك، لم يعد هناك عدد كاف من سائقي الشاحنات الضخمة التي توصل البضائع إلى المحلات المطلوب إيصال هذه البضائع إليها.

الأكيد أن حرب اوكرانيا وجائحة "كوفيد – 19" زادتا الوضع سوءا. لكنّ بريكست يبقى في أساس الأزمة البريطانيّة المركّبة. خرجت المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي، لكنها لم تجد بديلا منه يتلقفها. بقيت العلاقات التجاريّة مع الولايات المتحدة ودول أخرى على حالها. كلّ ما في الأمر أن البريطاني صار من أجل دخول دولة أوروبيّة ينتظر في صفّ طويل مثله مثل أي مواطن من العالم الثالث، علما أنّه لا يحتاج إلى تأشيرة لزيارة هذه الدولة الأوروبيّة أو تلك... ما زال يحتفظ بهذه النعمة فقط.

يرفض معظم السياسيين البريطانيين الحضّ على إعادة النظر في بريكست بحجة أنّه أقر في استفتاء شعبي، لكن مثل هذا الطرح من النوع الذي لا قيمة له نظرا إلى ظروف إجراء الإستفتاء في منتصف العام 2016. يبقى مستقبل المملكة المتحدة أهمّ بكثير من إستفتاء دفع في اتجاهه سياسيون إنتهازيون لا يتمتعون بأي رؤية استراتيجية. نظمت حكومة ديفيد كاميرون الإستفتاء. ما لبث كاميرون الذي لم يشرح للمواطن البريطاني ما على المحكّ أن قدم استقالته وخرج من السياسة. ترك المملكة المتحدة في مهب الريح. أدخلها من حيث يدري أو لا يدري في أزمة سياسية تجاوزت الأشخاص. لم يعد معروفا هل تبقى اسكتلندا، حيث تؤيد أكثرية المواطنين البقاء في الإتحاد الأوروبي، في المملكة المتحدة أم لا؟

انتقلت بريطانيا بسبب بريكست من دولة شبه عظمى... إلى دولة تبحث عن المحافظة على وحدتها في ظلّ كيان اسمه المملكة المتحدة يضم إنكلترا وويلز واسكتلندا وايرلندا الشمالية.