حرب روسية أوكرانية تتجاوز أصداؤها أرجاء العالم ولا يشعر بها أحد!

عاطف معتمد لا يقدم في كتابه انطباعات ولا تعميمات فلسفية تنظيرية عن جغرافيا أو تاريخ وأرض لم يرها، حيث ينطلق عاطف معتمد من دراسات متعمقة في الجغرافيا والتاريخ والجيوبولتيكا، مدعومة برحلات وأسفار وزيارات في روسيا امتدت طوال قرابة ربع قرن.

كثيرا ما تخيلته يحمل مصباحًا يزيل غموض والتباس بعض القضايا والظواهر، فيبدد عتمة العقول بطرح طبقات تراكمية متجددة من الوعي.

مصباح دكتور عاطف معتمد أستاذ علم الجغرافيا بجامعة القاهرة ليس خياليًا أسطوريًا، فهو غارق للعمق في الواقع والحقيقة، لا ينتظر من يدعك المصباح ليطلق المارد من قمقمه، ولا هو ينتظر قائمة طلبات تعجيزية ليشرع في تلبيتها، عاطف معتمد هو "المصباح والمارد"، الذي انطلق إراديًا قبل ربع قرن ليحقق شغفه ونهمه العلمي، ليس فقط في الجغرافيا مجاله وتخصصه الذي تجاوز فيه الأستاذية بمراحل، بل في مجالات علمية وإبداعية شتى، من التأليف والكتابة إلى الترجمة التي جعلها جسرًا للتواصل، ومحاولة عبور بالجغرافيا من ضيق الآفاق الأكاديمية إلى رحابة الإيمان بسلطة المكان وقدرته الفائقة على تقديم قراءات أعمق وتفسيرات أوسع، دون الاتكاء أو الاكتفاء بتقديم تعميمات فلسفية مغرقة في التنظير. فالرجل رحالة ميداني، يقرأ ويبحث ويترجم ويدقق، ويجوب الصحاري والمدن ويصعد الجبال والوديان والسهول والأفلاج، يجالس العلماء والمستشرقين، كما يعايش شيوخ القبائل والعشائر وقصاصي الأثر، لهذا يعرف الوجوه والألوان والأعراق والثقافات وكل المكونات الديموغرافية، التي يتصدى للكتابة عنها، فيقدم لوحات فسيفسائية متكاملة بمنهجية شاملة في التعامل مع الواقع بظواهره وتعقيداته.

وحين شرعت في قراءة كتابه "روسيا وأوكرانيا حرب عالمية غير معلنة" الصادر في مطلع هذا العام عن دار الشروق، شعرت بالقلق الشديد عليه شخصيًا من هذا الفخ الذي دلف إليه إختياريًا في مهمة فكرية صعبة. بدأت القراءة مثقلًا بمعرفتي السابقة بباحث جاد لا يقدم رؤى متعجلة ولا آراء انطباعية.

دخلت الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث، ولا تبدو في الأفق نهاية وشيكة لها، فماذا يفعل هذا المغامر؟ ماذا يكتب والمدافع والصواريخ لم تهدأ بعد والحرب لا تزال تدور رحاها؟ يقيني أن الاقتراب من حريق مشتعل غير معلوم حجمه وامتداده، ولا أفق زمني واضح لنهايته، مخاطرة لها ثمنها الفادح الذي يدركه جيدًا من يلعب بالنار، ولأنه يعي جيدًا ما يفعل، فقد ألقى عاطف معتمد بنفسه وقرائه في آتون الحرب، متسلحا بمنهج علمي صارم ومتجدد ومعرفة وثيقة بجغرافيا أرض مساحتها 17 مليون كيلو مترًا مربعًا، عرفها في عام 1997 خلال رحلته للحصول على درجة الدكتوراه في الجغرافيا من جامعة سان بطرسبرج في روسيا، واستمر ذلك حتى عام 2001. وطيلة الفترة من 2001 وحتى 2013، ظل يشارك بالمقالات والترجمات في الشأن الروسي الدولي، وخلال الفترة من 2013 و2017عمل مستشارًا ثقافيا ورئيسا للبعثة التعليمية المصرية في روسيا، وقد ساهم ذلك في تكوين جانب مهم من فهمه للمسألة الروسية ودور روسيا في دوائر تأثيرها الإقليمي والعربي والدولي، ما ضمن له السلامة والنجاة من نيران الحرب المستعرة حتى اللحظة، حتى خرج وأخرجنا منها سالمين!

ورغم أن الحرب تبدو بعيدة عنا، ولا نكاد نشعر بها، إلا أن الثراء المعلوماتي والمعرفي الذي يتضمنه الكتاب، والعمق في دراسة وفهم جغرافية التاريخ، والوعي والحذر حد التحوط في بناء سيناريوهات المستقبل، في ضوء معطيات الحاضر، يجعلنا نقف على بعض تفاصيل الصورة لجذور وأبعاد الصراع الروسي الغربي على المسرح الأوكراني.

روسيا ولدت لتحارب

متذرعة بالاختراق الأميركي لتخوم، والتحضير لضم أوكرانيا إلى حلف الناتو وتهديد الأسطول الروسي في القرم، شنت روسيا في نهاية فبراير 2022 حربًا على أوكرانيا أعطتها مسمى عملية عسكرية خاصة، لكن يبدو أن هذه الحرب تتجاوز مسرحها لتترك آثارها لفترة من الزمن على روسيا وأوروبا الشرقية والعالم أجمع.

تمثل هذه الحرب الفصل الثاني من الصراع المتجدد بين روسيا والغرب، ولا سيما بعد أن قامت روسيا في 2013 بانتزاع شبه جزيرة القرم من أوكرانيا وضمها للدولة الروسية قبل أن يحال بينها والوصول إلى المياه المفتوحة في البحار والمحيطات الدولية، وبينما تروج السردية الروسية لمزاعم أن روسيا تخوض عمليات "دفاع أمامي لحماية أراضيها الأصلية" وأنها قد تهاجم هنا وهناك لكنه هجوم دفاعي حتى لا تترك الفرصة للأعداء المحيطين بمساس نفوذها واقتطاع بعض من أقاليمها الجغرافية في مناطق الأطراف، تكشف الحرب أن روسيا لم تصل بعد إلى مرحلة الارتواء الجغرافي وضم الأراضي أو استعادة نفوذها القديم.

 وبحسب المؤرخ الروسي سير بريانكوف فإن "روسيا ولدت لتحارب"، حيث تعد الحرب مكونا أساسيا في الحياة الروسية، بل ركنا من أركان عقيدة الدولة، ونظام الحكم فيها. وخلال قرن من الزمان والحروب التي خاضتها روسيا فإن روسيا - بعد فرنسا - تعد أكثر دول العالم خوضا للحرب، فالحرب تمثل القطاع الاقتصادي الأكثر أهمية في روسيا؛ باعتبارها واحدة من كبريات دول العالم في تجارة السلاح والتقنيات العسكرية وثيقة الصلة بالمنظومة الصناعية المدنية، ولديها ترسانة نووية ثقيلة منذ زمن سباق التسلح في عهد الحرب الباردة، وتراكمت هذه الترسانة عبر 71 سنة متتالية.

وبينما يقرر المؤرخ في كتابه "حروب روسيا" أن روسيا دولة ولدت لتحارب، فإن الأجيال الجديدة تريد تغيير هذه العبارة لتصبح "روسيا دولة ولدت لتعيش وتستمتع بالحضارة تماما كما تفعل المجتمعات الأوروبية الغربية".

حرب عالمية غير معلنة

يبدأ الكتاب بالتاريخ وينتهي برؤية للمستقبل، وفيما بينهما تفسير جغرافي، وقد كان المؤلف صادقًا تمامًا مع نفسه ومع قرائه حين أقر بأنه ليس بوسع هذا الكتاب تقديم إجابة كاملة عن الصراع الحالي بين روسيا والغرب، ولأنها مواجهة مع الغرب كله وليس فقط أوكرانيا، فهي بالفعل حربًا عالمية أخرست فجأة آلة الدعاية والإعلام الهادر بشأن أخبار جائحة كورونا، وأسكتت كل الأصوات والأخبار والتقارير عن تنظيم القاعدة وداعش  وتنظيم الدولة الإسلامية وأنصار الشريعة وأنصار الإسلام وأنصار بيت المقدس، وجيش الإسلام وكل الجماعات الإرهابية أو الموصوفة بذات الوصف، ولما وقع طوفان الأقصى في غزة يوم 7 أكتوبر/تشرين الاول من عام 2024م، ابتلع أمامه كل شيء بما في ذلك الحرب الروسية مع الغرب على المسرح الأوكراني، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ، كيف أن حربًا شعواء بين المقاومة الفلسطينية في غزة والكيان الصهيوني مدعومًا من الغرب والعالم وبخاصة أمريكا وبريطانيا، أعلى صوتًا من حرب بين دول وأحلاف كما في صراع روسيا مع الغرب والناتو على المسرح الأوكراني!

يتبنى الدكتور عاطف معتمد منهجًا حيويًا يجمع بين الصرامة والمرونة والتجديد في آن واحد، ويرى في الجغرافيا أداة تفسر المكان والزمان وتقرأ الوجوه والألوان والألسن والأعراق والثقافات، وبحيث تتجاوز كونها مجرد خرائط وتضاريس تدور عليها الأحداث ويُصنع فوقها التاريخ، فهي تنقب بعمق في الطبيعة لتكشف كنوز الأرض وخيراتها، كما أنها تحذر عن علم ووعي بمخاطرها وحقول ألغامها!

إمبراطورية المفاجآت

روسيا ليست دولة ضاربة في التاريخ فمنذ مطلع القرن 17، بدأت رحلتها كمملكة يدفعها الشغف الحضاري الممتلئ بالطاقة الحربية، تغزو عالم أوربا وآسيا، وعلى مدار قرون بنت روسيا إمبراطورية قوية عرفت باسم الإمبراطورية القيصرية، ولما جاء القرن العشرون تلقت هذه الإمبراطورية هزيمة في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) ترنحت على إثرها ثم انهارت وعلى أنقاضها نهض كائن عملاق حمل اسم الاتحاد السوفيتي، الذي انهار في عام ۱۹۹۱ فيما يشبه الزلزال، جاءت الهزيمة من الداخل كان الاتحاد السوفيتي أكبر عدو لنفسه ، وحلت الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة الأميركية محل القطبية الثنائية السابقة، وقد حاولت روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفيتي - ولا تزال - تشكيل تحالفات وتكتلات متعددة لمواجهة حلف الناتو والتغلغل الأمريكي، من أهمها كومونولث الدول المستقلة، وشنغهاي وبريكس، ومبادرة الحزام والطريق، وهي محاولات باءت معظمها بالفشل.

صعود بوتين

وفي عام 2000 وصل للسلطة فلاديمير بوتين، وعمل طيلة 20 سنة، على استعادة ميراث القياصرة حيث السلطة المركزية وأحادية الرؤية السياسية، ولكن في ثوب عصري يناسب القرن الحادي والعشرين وذلك على الساحة الداخلية، وإصلاح البنية الروسية في السياسة الخارجية، واستعادة مكانة روسيا على الساحة الدولية.

بوتين زعيم لا يشبه أحدًا، يذكرني ببعض الحكام العرب الذين لا يحول بينهم وكرسي السلطة سوى الموت! ففي عام 2008 استنفد بوتين فترتين رئاسيتين، وكان عليه الخروج نهائيا من مسرح الأحداث وفق ما ينص عليه الدستور الروسي، أسس بوتين "حزب روسيا الموحدة" ودخل الانتخابات، يدعم صديقه ديميتري ميدفيدف الذي جاء رئيسًا واختار بدوره بوتين رئيسا للوزراء.

قبل أقل من عامين من شن الحرب على أوكرانيا فى فبراير 2022، أجرى بوتين تعديلات دستورية جذرية في 2020 استبقت انتهاء فترته الرئاسية الثانية التي كان يفترض أن يخرج بعدها من المشهد نهائيا في عام 2024، وبموجب التعديلات الأخيرة وتصفير عدد سنوات الرئاسة لبوتين، وجعلها ست سنوات بدلًا من أربع، أصبح يحق لبوتين الترشح مجددا للرئاسة لفترتين، بما يعني - نظريًا - بقاء بوتين رئيسًا لروسيا حتى عام 2037 ليكون مجموع حكمه لروسيا 37 سنة متصلة وسيكون وقتها قد بلغ من العمر 84 عاما.

مسرح الحروب

يبدو أن أوكرانيا صارت مسرحًا لكل أنواع الحرب، وليس فقط للحرب المباشرة التي تشتبك فيها البوارج والمقاتلات الجوية والدبابات وفرق المشاة وعصابات المرتزقة، والحرب السيبرانية والتجسس بالأقمار الصناعية والتهديد باستخدام أسلحة نووية تبيد الجنس البشري، فهي تشهد ألوانًا من الحرب المعلوماتية والنفسية التي بلغت أعلى درجة من الخداع وتمرير المعلومات والأكاذيب والمغالطات والتزييف من أجل التأثير على الخصم في ميدان الحرب المباشرة، وهي تشهد كذلك حربًا حضارية، حيث تزعم روسيا أن هذه الحرب هي لإنقاذ أوروبا من تبعيتها الذليلة للولايات المتحدة.

يوظف المؤلف أدواته لتقديم تفسير جغرافي للحرب بين روسيا والغرب على المسرح الأوكراني، فنحن أمام الجيوبوليتيكا وحيث الطموحات والأطماع لدى النخب الحاكمة في تغيير الحدود السياسية والواجهات البحرية والسعي للسيطرة على الخيرات والثروات من نفط وغاز وخامات، ونحن أمام الحرب الديموغرافية، من حيث تغيير الخريطة السكانية بالتهجير القسري وإحلال سكاني محل سكان سابقين، وتطهير عرقي، وإبادة جماعية للسكان، وإرهاب وتخويف لإعادة تشكيل خريطة سكانية جديدة في المناطق محل النزاع والصراع، كما أننا بصدد فهم بذور وجذور الصراع التي غرست قبل ألف سنة فيما يعرف بالجغرافيا التاريخية أو جغرافية الماضي لفهم الحاضر والتنبوء بالمستقبل، إضافة إلى الجغرافيا الثقافية، فالصرع الدائر حاليا يمكن فهمه وفق تحليل الأعراق، والديانات واللغات والهويات القومية، والأساطير الوطنية، ومعركة الأفكار في الفضاء الأورو - آسيوي وأوكرانيا نفسها مشطورة الهوية بين شرق أقرب لآسيا وغرب أقرب لأوروبا.

الفناء الخلفي للصدام

يشير المؤلف إلى أنه لكل قطب دولي أو قوة عظمى فناء خلفي، تتعرض شعوبه لتكسر القوى وتنازع المصالح، وفي كثير من الأحيان تتحول أوطانهم إلى ساحة رماية وميدان قتال، وتعد أوكرانيا مثالا واضحًا في الجغرافيا السياسية لمفهوم "أقاليم التكسر". وخلال العقدين الماضيين دفعت شعوب أوكرانيا وجورجيا وقرغيزيا وأوزبكستان ومولدوفا ثمن وقوعها في الفناء الخلفي لروسيا، فحصلت على وعود متضاربة، ودفعت ثمنا فادحا للمراهنة الخاطئة.

وأمام سيطرة التقارير الغربية التي تنقل سردية أحادية عن الحرب، يفسح المؤلف المجال لوجهة النظر الروسية، فيعرض للدعاوى والحجج التي يطرحها الكرملين حول الصراع مع الغرب، ويتناول مطالب روسيا بشأن وقف تبعية النظام الدولي للولايات المتحدة، وتحرير المنصات المالية العالمية، وتعزيز دوائر الأمن القومي. ويختتم الفصل بعرض واحدة من خصوصيات دفاع روسيا عن موقفها وحجتها فيما يسمى مبدأ "الكفاية الروسي".

ففي عقيدة الكرملين يعمد الغرب في السنوات الأخيرة إلى اتخاذ عدد من الخطوات التي تخلق التوتر والصراع مثل تأجيج الحرب من خلال استفزاز روسيا في أوكرانيا واستفزاز الصين حول تايوان، وزعزعة استقرار أسواق الغذاء، والإخلال باستقرار أسواق الطاقة العالمية. يقر الكرملين بأن الغرب لم يكن يسعى عامداً إلى زعزعة استقرار الطاقة بشكل مباشر.

العمى العنصري والاستعماري

يردد بوتين مقولة الأديب الروسي الحائز على جائزة نوبل في الآداب ألكسندر سولجنتسين: "الغرب غارق في عمى التفوق والتميز عن الآخرين، ولديه اعتقاد بأن جميع المناطق الشاسعة على كوكبنا يجب أن ترتقي وتعتمد الأنظمة الغربية الحالية".

ويذهب إلى أن العولمة التي يروجها النموذج الغربي ليست إلا استعمارًا جديدًا يقوم على توحيد كل القوى في يد الغرب، ولهذا ترى روسيا ضرورة إيقاف استخدام الدولار والخروج من عالم الدولار، فليس من العدالة أن سكان العالم البالغ عددهم نحو ٨ مليارات نسمة يتسيدهم "مليار ذهبي" من البشر الذين يعيشون حياة كريمة ورغدًا من العيش في الدول الغربية واليابان وكوريا الجنوبية على حساب استغلال بقية دول الأرض التي يبلغ عدد سكانها نحو مليارات. المليار الذهبي لا يمثل سوى 13٪ من إجمالي سكان العالم. يردد بوتين هذه الأفكار ويدعمها بمبدأ الكفاية الروسي الذي تعتبر فيه روسيا نفسها مكتفية عن غيرها، فهي حضارة مستقلة وأصيلة قائمة بذاتها، لا تعاني رُهاب الغرب ولا رهاب أميركا.

النفط والغاز وطريق الحرير القطبي!

 ولأن الحرب الحالية هي أيضًا حرب اقتصادية، تستغل روسيا بدهاء موارد النفط والغاز في إدارة المعركة مع الغرب، واستغلال تصدير هذه الموارد في تطوير مجالات الصراع مع كل من الولايات المتحدة وحلف الناتو، فضلا عن استغلال شبكة الأنابيب في التأثير على الأوضاع الجيوسياسية والاقتصادية في أوكرانيا منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي وحتى اشتعال الحرب الأخيرة.

وتقدم شركة غاز بروم الروسية نموذجا لشركة عملاقة عابرة للقارات والقوميات، بإنتاجها الذي يقترب من 20% من إجمالي الإنتاج العالمي للغاز. وتعد ألمانيا في مقدمة الدول التي تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 22٪ من إجمالي استهلاكها من الطاقة، بينما تستهلك بولندا ٦٥٪ من الغاز من مصادر روسية، فضلا عن عشر دول في شرق أوروبا ووسطها تعتمد بنحو ٩٠ - ٩٥٪ على الغاز الروسي من خلال سيطرة روسيا على ما يقرب من 153 ألف كيلومتر من أنابيب الغاز في القارة الأوروبية.

ولا يتحدى بوتين الناتو فقط على الأرض بل فوق القطب الشمالي، فهناك حرب ساخنة تجري تحت جليد القطب الشمالي، الجائزة ثروات هائلة ومسارات للصواريخ والثمن قد يكون كوكب الأرض بأكمله، إذ يضم قاع البحر تحت المحيط المتجمد ما يقدر بنحو 90 مليار برميل من النفط، أي ما يعادل حوالي 13% من احتياطات النفط غير المكتشفة في العالم، وما يقدر بنحو 30% من الغاز الطبيعي غير المستغل على كوكب الأرض، حتى أن استثمارات الصين فيما عرف بطريق الحرير القطبي الممتد من الصين شرقًا إلى غرب أوروبا أثارت مخاوف وتداعيات خطيرة لدى البيت الأبيض، وقد  أغرت الموارد المخفية تحت المياه المتجمدة الدول الكبرى بالتنافس على الحصول على حصص في الغنيمة القطبية وصار القطب الشمالي مكيف العالم وسقفه البارد على فوهة بركان يتم التعامل معه وفق ما يعرف بدبلوماسية الثلج.

ورقة القومية الخطرة

لا يخفي الكرملين اعتراضه المتكرر على توصيف الغرب لروسيا بأنها دولة من الدرجة الثانية، إذ يتطرق الكتاب إلى مسألة الصراع العرقي بين شعوب أوروبا الشرقية، ومسألة عودة أشباح التناحر القومي في الإقليم منذ خمود نيرانها بنهاية الحرب العالمية الثانية التي شهدت تفشي الأيديولوجيات العنصرية التي عبرت عن نفسها بجلاء في ألمانيا النازية. يناقش الكتاب تآكل الأطروحة الحضارية التي كانت روسيا ترفعها في الإقليم ساعية إلى قيام تحالف من الشعوب السلافية لمواجهة الأطروحة التي يروجها الغرب عن «الروسوفوبيا» أي التخويف من روسيا.

وفي وقت يتناقص فيه عدد السكان الروس من 148 مليون نسمة عام 1990 إلى 146 مليونا الآن، فإن أعدادا متزايدة من المهاجرين من الصين تتدفق من مناطق الحدود عند الشرق الأقصى إلى روسيا بسبب الخلل الديموغرافي.  

مكاسب هنا .. خسائر هناك

تشير الأدلة إلى أن الحرب في أوكرانيا في طريقها لأن تستقر دون تغيير في الوقائع الجيوسياسية لعدة سنوات مقبلة. وحتى اليوم لا يمكن القول إن طرفا حقق نصرا كاسحا. فقد نال كل طرف مكاسب هنا ومني بخسائر هناك.

أما الغرب فما زال يكبل حركة روسيا في المسرح الدولي، فمنذ الأيام الأولى للحرب في فبراير2022 ، تبين أن هناك مخاطر في استدراج روسيا وحبس جيشها وقدراتها في المسرح الأوكراني الذي هو بدوره "جوار قريب" أو "حديقة خلفية"، ومن ثم فإن تورط روسيا في أوكرانيا سيسحب قواتها من أماكن أخرى في العالم ولا سيما دورها في أهم إقليم استعماري للغرب وهو الشرق الأوسط.

وبرحيل بوتين ستعيش روسيا خيارات صعبة تستهل عادة بفترة غموض من دون زعيم يناسب تلك الدولة؛ لأن بوتين قام بتجريف كل الخيارات المطروحة بشأن تولي زعيم له قدرة على تجميع الشعب خلفه، وإذا ظلت العوامل الحالية بنفس قوتها، وتوزيع اللاعبين بنفس مواقعهم، فإن الصراع في أوكرانيا قد يتجمد في حراكه وتكتسب الخريطة معالمها التي تقف فيها القوات على الأرض حاليا.

لا يقدم المؤلف انطباعات ولا تعميمات فلسفية تنظيرية عن جغرافيا أو تاريخ وأرض لم يرها، حيث ينطلق عاطف معتمد من دراسات متعمقة في الجغرافيا والتاريخ والجيوبولتيكا، مدعومة برحلات وأسفار وزيارات في روسيا امتدت طوال قرابة ربع قرن، وطئ الأرض ورأى الوجوه والأعراق وقرأها، وغاص في جغرافيا التاريخ ليقدم تاريخ الجغرافيا الجديد الذي يتشكل الآن في ضوء نتائج هذه الحرب، دفعته إجادته للروسية إلى مسح المصادر الروسية المتنوعة من كتب ودراسات وتقارير صحفية، وتحليل نقدي متعمق لخطابات الرئيس الروسي بوتين، للوقوف على الكيفية التي ترى بها موسكو حربها ضد أوكرانيا والناتو، وبالمثل فعل مع أوكرانيا، ووقف على الحياد فلا هو أخذ صف هذه أو تلك.