رحلة العودة الفلسطينية الى واشنطن

يمكن تخصيص جائزة خاصة لمن يعرف اسم رئيس البعثة الفلسطينية في العاصمة الاميركية.

أيا يكن القرار النهائي لإدارة دونالد ترامب بالنسبة الى اغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن او ابقائه مفتوحا، يظلّ ان العلاقة الاميركية – الفلسطينية دخلت منذ فترة طويلة مرحلة جمود، خصوصا بعد فشل قمّة كامب ديفيد صيف العام 2000 بين الرئيس بيل كلينتون وياسر عرفات وايهود باراك الذي كان رئيسا للوزراء في إسرائيل.

من تجاهل جورج بوش الابن كلّ ما له علاقة بفلسطين وانهماكه في "الحرب على الإرهاب" بعد احداث الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001، التي توجت بالحرب الاميركية على العراق لإسقاط نظام صدام حسين، هناك تراجع مستمر في العلاقة بين اميركا والفلسطينيين. ليس احتمال اغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن سوى تكريس لهذا التراجع وصولا الى القطيعة.

هل يمكن القاء اللوم على إدارة دونالد ترامب التي قررت تجاوز القضية الفلسطينية، علما انّ هذه القضية هي في نهاية المطاف قضيّة شعب؟ هناك شعب موجود على الخريطة السياسية للشرق الاوسط لكنّه ما زال يبحث عن مكان على الخريطة الجغرافية للمنطقة.

لن يكون في استطاعة إدارة ترامب وضع قضيّة فلسطين خلفها، على الرغم من انّها تعمل بطريقة مدروسة على تقويض الدعائم التي تعتقد انّها وراء بقاء هذه القضيّة حية طوال سبعين عاما. ليس صدفة انّ هناك رغبة واضحة في طيّ ملفّ القدس وطيّ قضية للاجئين المقيمين في مخيمات في الأردن ولبنان وسوريا والعراق... وفي الضفّة الغربية وغزّة. كان قرار نقل السفارة الاميركية الى القدس بمثابة اغلاق أميركي لملفّ المدينة المقدّسة التي يفترض ان يكون القسم الشرقي منها عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلّة. عندما تقدم الإدارة الاميركية على قرار بخطورة نقل السفارة الى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، فهي تلغي عمليا خيار الدولتين الذي سبق للادارات السابقة اعترافها به واعتماده حلّا مقبولا ومدخلا لانهاء النزاع. جورج بوش الابن نفسه، الذي قرّر بناء على نصيحة من بيل كلينتون عدم التعاطي مع ياسر عرفات، تحدّث عن دولة فلسطينية "قابلة للحياة".

جاء قرار وقف الدعم الاميركي لـ"اونروا" وهي وكالة غوث اللاجئين بمثابة دعوة الى حل مشكلة هؤلاء في اطار الدول التي استضافتهم. هذا يعني ان "حق العودة" لم يعد واردا، علما انّ هذا الحقّ كان يفرض على الفلسطينيين انفسهم وعلى دول الجوار التعاطي معه بطريقة مختلفة وواقعية في ظلّ المراحل المختلفة التي مرّت بها القضية الفلسطينية منذ العام 1948. لم يكن مقبولا ترك "حق العودة" مادة يستغلها المتاجرون بالقضية الفلسطينية من اجل بيع الأوهام والترويج لها لقطع الطريق على أي عملية سلمية. كان من الأفضل لو استخدم هذا الحقّ في ظروف معيّنة من اجل تحسين الشروط الفلسطينية في ايّ تسوية كان يمكن التوصل اليها، مهما كانت هذه التسوية مجحفة.

في كلّ ما جرى ويجري حاليا، كان القرار الذي اتخذه ياسر عرفات في نهاية العام 2000 والقاضي بعدم قبول "الاطار" الذي اقترحه بيل كلينتون من اجل التسوية خطأ جسيما. حمل ذلك كلينتون، الذي استضاف "أبو عمّار" في البيت الأبيض ليلة رأس السنة، على اتخاذ موقف سلبي من الزعيم الفلسطيني الراحل ودعوة خلفه (جورج بوش الابن)، الذي كان يستعد لدخول مقرّ الرئاسة الاميركية الى عدم التعامل مع القيادة الفلسطينية. لماذا ارتكب ياسر عرفات هذا الخطأ الجسيم على الرغم من النصيحة الصادقة التي قدّمها له وقتذاك الأمير بندر بن سلطان الذي كان لا يزال سفيرا للمملكة العربية السعودية في الولايات المتّحدة؟ لا يزال ذلك لغزا. لكنّ الثابت ان الفلسطينيين دفعوا منذ بداية العام 2001 ثمن كلّ الاحداث الكبيرة التي مرّت على المنطقة وعلى العالم. شمل ذلك خروجهم خاسرين من كلّ معركة ديبلوماسية او سياسية او عسكرية خاضوها بعد قرار "عسكرة" الانتفاضة في السنة 2001 التي شهدت إرهاب "القاعدة" يضرب في واشنطن ونيويورك في أيلول – سبتمبر من تلك السنة.

لا شكّ انّ هناك انحيازا اميركيا كاملا لإسرائيل منذ دخول دونالد ترامب البيت الأبيض. هذا واقع لا مفرّ من التعامل معه بدل الهرب منه. بالنسبة الى ترامب، لا تعني فلسطين شيئا. ليست لديه أي مصلحة في التوصل الى تسوية معقولة ومقبولة. لدى الرجل حسابات خاصة به تختلف عن حسابات اسلافه في البيت الأبيض. لم تعد اميركا وسيطا، علما انّ فلسطينيين كثيرين كانوا يشككون دائما في قدرتها على لعب دور الوسيط العادل.

ناضل الفلسطينيون طويلا من اجل الوصول الى واشنطن. اذا كان من اهمّية لاتفاق أوسلو للعام 1993، فان هذه الاهمية تكمن في انّ الاتفاق فتح لهم أبواب البيت الأبيض. كان ياسر عرفات اكثر زعيم تردد على مقر الرئاسة الاميركية في العام 2000. بعد ثمانية عشر عاما على اتفاق أوسلو، الذي وقع في حديقة البيت الابيض، بدأت رحلة المغادرة الفلسطينية لواشنطن. استغرقت رحلة الوصول الى العاصمة الاميركية سنوات طويلة توجت بذلك العشاء في البيت الأبيض ليلة رأس السنة في آخر السنة 2000.

لم تخدم التطورات الإقليمية الفلسطينيين وقضيّتهم. لكنّهم لم يخدموا انفسهم أيضا. لم يكن هناك في ايّ وقت استيعاب لمعنى تراجع القضية، خصوصا بعد سقوط العراق في السنة 2003. هناك ضربة كبيرة للقضيّة الفلسطينية على الصعيد العربي بعد تحوّل العراق الى مرتع للميليشيات المذهبية الايرانية و"ساحة" تسرح وتمرح فيها.

فوق ذلك كلّه جاء حصار ياسر عرفات من جانب ارييل شارون في "المقاطعة" (مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله) ثمّ وفاة الزعيم الفلسطيني في تشرين الثاني – نوفمبر 2004 ليخلق فراغا ما زال الفلسطينيون يعانون منه الى اليوم. هذا الفراغ كبير الى درجة ان لا وجود لاي وعي فلسطيني، منذ سنوات عدّة، لأهمية وجود بعثة ديبلوماسية في واشنطن. يمكن تخصيص جائزة خاصة لمن يعرف اسم رئيس البعثة في العاصمة الاميركية.

لن يتمكّن دونالد ترامب من قتل القضية الفلسطينية او الغائها او شطبها. لكنّ الثابت ان وقتا طويلا سيمرّ قبل ان تستعيد هذه القضيّة الموقع الذي تستأهله. ثمّة حاجة الى رجال جدد يعرفون ما هي المنطقة وما الاولويات فيها ويعرفون كيف التعاطي مع إدارة أميركية، لا تريد في الأصل التعاطي معهم. اخذت رحلة الوصول الى واشنطن سنوات طويلة. كم ستستغرق رحلة العودة اليها؟ الأكيد ان رحلة العودة الى مواقع القرار الاميركي لن تكون نزهة وستكون في حاجة الى جيل جديد من الفلسطينيين يدرك تماما ما معنى الصعود المستمر لليمين الإسرائيلي المتطرف منذ السنة 2000 من جهة ومعنى التحولات التي يشهدها العالم، على رأسه الولايات المتحدة، من جهة أخرى. ثمة حاجة، باختصار شديد، الى عقل خلّاق ومرن بعيدا عن اللغة الخشبية التي استخدمها مسؤولون فلسطينيون، اكل الدهر عليهم وشرب، في ردّهم على قرارات إدارة ترامب.

هناك عالم مختلف يحتاج قبل كلّ شيء الى لغة مختلفة.