صرخة أيوب من 'أب وابن'

رحلة محمد وشادي حمادي تعتبر من الرحلات الصعبة الحارقة والمؤلمة في تاريخنا الحديث والمعاصر. إنها رحلة الإكراه والدفع للفرار والهروب واللجوء الى المكان الآمن خوفا من بطش السلطة الطاغية.

"إن أنا صرخت ضد العنف فلا أجد جوابا، وإن أنا استأنفت أمري إلى يهوه، فلا يصدر أي حكم، لأنه نصب في طريقي جدارا صعب العبور، ووضع الظلمات على ممراتي"

تعتبر رحلة "أب وابن" لمحمد وشادي حمادي، من الرحلات الصعبة الحارقة، والمؤلمة في تاريخنا الحديث والمعاصر. إنها رحلة الإكراه والدفع للفرار، والهروب واللجوء الى المكان الآمن، خوفا من بطش السلطة الطاغية، التي تتغذى على الموت. وتفرض التهجير قسرا وظلما، والتغريب بحثا عن البقاء، وحماية الذات من الشر العاري من قانون الجريمة والضحية والعقاب. إنها رحلة الألم والغربة، والفقدان للبيت والأهل والأحبة، وخسارة مصادر النفس في بناء الهوية، والشعور بالانتماء النفسي والاجتماعي والتاريخي والجغرافي. كما أنها رحلة البحث عن مصادر الذات لاستعادة التوازن المفقود عند الأزمات والتحديات، المتخطية لقدرة الفرد على الفهم والمواجهة، واكتشاف المعنى. بالإضافة الى أنها سيرة حلم ثورة في العودة، و وال القهر، وعناق الأرض والأحبة من جديد.و خروج رعب الصمت عن حياده المألوف تحت وطأة سطوة القهر، الى الالتحام بفرحة الحياة، والعودة مجددا الى بيت النفس المجروحة، وطي صفحة الألم الدفين. ورجوع النبض الحي لقلب الذاكرة الموشومة بالحرقة والعذاب، ولعنة الترحال الموجع للروح. مما يسمح للبوح بجراح ألم النفي،و عذابات الهروب والتهجير، أن ينتفض بحرية كاملة، ضد بشاعة الصمت في سلخ القيمة الإنسانية. وفي هذا السفر المؤلم المخيب للأحلام الشاقة والعنيدة، تزهر شجرة الأمل، حين تبحث الذوات عن معنى وجودها، دفعا لالتباسات الغربة، وضباب الوصم السيئ للمنفي المُهجر بالأجنبي. هذه هي المنعطفات العسيرة التي عرفها بيت حمادي، كما عرفها الشعب السوري.

الألم والشر من جماعة حافظ الأسد الى بشار الأسد

عندما يصعد الطاغية الى الحكم يرخي الليل سدوله، وتسيطر الأشباح والخفافيش القمعية لأجهزة الأمن على حياة الشعب. يسود الصمت وينسحب الكلام من ألسنة الناس، وتُغيّب الأصوات التي تجرأت على الهمس والغمز والإيماء، بين السجون والقبور المجهولة. ولا صوت يعلو من الشعب غير صرخات التعذيب في حضرة زبانية شرسة كالوحوش المفترسة. من وسط هذه السياقات المرعبة والرهيبة، انطلقت وتشكلت رحلة الأب محمد نحو المجهول، هروبا من سلطة تتغذى على أرواح الأبرياء العزل. لا لشيء محرم انتهكه، أو جرم ارتكبه ويستحق العقاب، بل فقط لأنه شاب في مقتبل العمر المفعم بالأحلام والنشاط والحيوية، والمشحون  بالعنفوان. كانت له رؤية مختلفة للذات والآخر والعالم. لأنه فكر بطريقة أخرى في النظر الى الحياة والوطن والعالم، عكس ما تريد فعله السلطة الحاكمة، من وضع الناس في سوق النخاسة، وقد امتلكت أرواحهم وعقولهم وقلوبهم، تبعا لآلية التجريم السياسي، والتحريم الديني. هكذا عاش الأب تجربة الاعتقال والتعذيب الحافر للألم المروع في الروح والذاكرة. وتفاديا للموت المحتوم الذي تلوح به طبيعة السلطة الاستبدادية التي لم تتغير عبر انقلاباتها الدموية، بل ازدادت مع عائلة الأسد توحشا وهمجية في تصفية أي صوت حر مستقل، بالسجن، القتل، أو فرض الأمر الواقع التهجير القسري، هروبا من الإبادة الوجودية، وليس فقط التصحر السياسي.

بدأت رحلة الأب محمد من بيروت، وصولا الى إيطاليا، مرورا بالكويت، ثم إسبانيا. حاول في كل هذه المحطات هدم الجسور التي يمكن أن تربطه بذاكرة ماضيه الأليم.

ونظرا لتنشئته في أسرة وعائلة متجذرة في الانفتاح على الاخر في اختلافه الديني والاجتماعي، لم يجد صعوبة في العيش في بلاد الغربة والمنفى، خاصة وأنه أغلق كل المسارب والسبل والشقوق التي يمكن لبركان ذاكرة الماضي أن ينغص عليه حياته بالحمم الحارقة. هذا يعني أنه حسم ، الى حد ما، علاقته بالماضي.لذلك لم يجد أي عوائق نفسية، فكرية، أو عاطفية في أن يتزوج من سيدة إيطالية، تجمعهما الكثير من القواسم المشتركة، على مستوى الأفكار والقناعات المبدئية، الثقافية والأخلاقية. فمارس حياته الاجتماعية بشكل طبيعي كما لو كان واحدا من أهل البلد. فدخل السياسية من بابها الواسع في الانتماء، وعيش كل حقوق المواطنة في التسيير والتنظيم والفعل الملموس، كفاعل سياسي اجتماعي علماني. وذلك بمعنى الاستعداد الثقافي والفكري لقبول صيرورة الانتماء والهوية، كثراء تاريخي اجتماعي متغير ومتطور باستمرار. وهذا ما ساعده على التواصل والانفتاح على الذات والأخر والعالم، دون خوف من فقدان ما يشكل تاريخه الشخصي، وهويته الفردية الحرة والمستقلة.

وبوعي لم يشأ أن يورط ابنه شادي من زوجته الإيطالية في ماضيه الأليم. خاصة وأنه أغلق باب الذاكرة المكلومة، وكبت هذا الإرث الثقيل من الألم والعذاب. إلا أن الصيرورة التاريخية، و متغيرات الظروف الأسرية، فجرت الكثير من الأسئلة لدى شادي حمادي. خاصة بعد وفاة أمه.

دلالة الفقدان وسؤال الهوية والانتماء

لقد عانى شادي كثيرا، بعد رحيل أمه، من دلالات الفقدان الغامضة والملتبسة في وجهه. فانطلق في رحلة البحث عن الذات والمعنى، معانقا أسئلة وجودية واجتماعية، طالت تشكل انتماءاته الوجودية، والاجتماعية والشخصية. فوجد  في كتابات جبران خليل جبران ما يحفز حرقة أسئلته على التصالح مع النفس، والحفر عميقا في مصادرها، وتحولات صيرورتها الرهيبة، عبر سياقات كثيرة، من بينها محنة الرحلة التي مر بها الأب. فعاش شادي نوعا من الحوار الذاتي الداخلي، بجانب أب أحكم إغلاق صندوق الذاكرة المترع بمعاناة ألم التعذيب، وعذابات الخروج القسري من البلد، وفك الارتباط بفكرة العودة الى البيت والأهل.

لكن هواجس وأسئلة شادي فتحت في وجهه رغبة التعرف على مصادر نفسه، فيما يمنح معنى لوجوده أمام الغموض والالتباسات التي فجرتها دلالات الفقدان، والغربة والعزلة والوحدة، العسيرة المعنى. هكذا حاول ربط الصلة، بما تشكل في النفس من أسئلة موجعة في الهوية والانتماء، بالواقع الملموس الحي. حدث هذا في رحلته المعكوسة لرحلة الأب. مأخوذا بسحر المنسي، والمسكوت عنه في صمت الذاكرة المقهورة. باحثا عن المحطات والشوارع، في بيروت وعلى تخوم الحدود، وتلكلخ ودمشق، ومختلف الأمكنة التي تشهد على سيرة الأب المفجوع بالمضمون السياسي والاجتماعي التسلطي للنظام السياسي السوري.

انصهر، اندمج،انسلخ .. أنت أجنبي، أجنبي

ولعل أيضا التجربة الصادمة والمفاجئة التي عاشها شادي، وهو منخرط في الدعاية الانتخابية السياسية، نصرة لأبيه، كانت ضمن الدوافع الواعية وغير الواعية التي فجرت الأسئلة الانطولوجية والشخصية في الهوية والانتماء. " سأترك لكما المنشور والدي مع اليسار الوسط. التقطت إحداهما الورقة وقالت: لماذا يجب أن نصوت لمواطن أجنبي؟. هل هذا والدك هنا في الصورة؟. صدمتني كلمة أجنبي مثل صفعة. لقد قيلت بنبرة ازدراء. ثم أدلتا بمزيد من التعليقات، ورفعتا أصواتهما ضدي وكدت أشعر بالبكاء."126

ثم جاء رحيل الأم ليعمق الجراح، فتخرج الأسئلة من منطقة مجهولة في الذات، كانت مغيبة ومنسية، من خلال الحضور القوي للأم، كدعامة أساسية لهوية شادي. لكن الشعور بالتمزق والتشظي، وانكسار أحد الجناحين، أسقط شادي من عليائه، فاصطدمبالواقع الحي بكل تناقضاته وصراعاته وتحولاته الصادمة أحيانا. وفي الوقت نفسه شمله الإحساس بالتنوع والتعدد الهوياتي والثقافي، الذي ينبغي الإلمام به، والتعرف على لغته ومضامينه الاجتماعية والثقافية. والذهاب أبعد من البحث عن الموارد الأسرية المعزولة، الى ركوب مغامرة رحلة السفر الشاق، الممسوس بذاكرة سيرة الأب المؤلمة، بحثا عن البيت بالمعنى الشامل والجميل. " بيت حمادي، أي أن البيت والعائلة يجتمعان في مفهوم واحد. هذا أفضل تعبير نعرفه، كيفما اتفق باللغة العربية، للتعبير عن قوة نواة الأسرة."29

لم تكن الرحلة سهلة بالنسبة لشادي، لأنها مشحونة بأسئلة موجعة مؤلمة لسيرة الأب. أسئلة الفقدان، والإكراه على الرحيل والهروب في المجهول. أسئلة التعذيب والتهديد بالموت كلغة وحيدة للتواصل العمودي الذي يمقت الحوار، والأخذ والرد في الكلام، تعبيرا عن تقبل وقبول الاعترافبالرأي الآخر. لكن قدر شادي كابن لسوري، عاش محنة التعذيب والاعتقال التعسفي، ثم وجد نفسه في وضعية مُهجر منفي، هارب من نظام سياسي يتغذى على القتل والالغاء والاقصاء، .. قدره أن يقوم برحلة مضاعفة. أن يحفر أولا، في الأعماق المكبوتة لسيرة الأب التي لفها الصمت القاسي والمؤلم للروح. كتاريخ منسي، مقموع، و مسكوت عنه، بفعل اضطرار الأب الى إغلاق زرنيخ الذاكرة السام الذي خلفه القهر السياسي. وثانيا هي رحلة نحو  مصادر نفسه المغيبة والمجهولة. " فإن اللغة العربية بالنسبة إلي لها معنى الثأر. كل كلمة تعلمتها، وكل نقاش وكل رحلة الى هذا الشرق الأوسط المحرم، كانت تعني استعادة جزء من هويتي."16

4 - عائد إلى تلكلخ

" لقد دفعني هوس الحنين دائما الى البحث عن أماكن والدي لإقامة اتصال. لقد فعلت ذلك في سورية، في عام 2009، عندما كنت أرغب في زيارة حمص وتلكلخ بأي ثمن، وأخبرت والدي على الهاتف، واصفا له إياها، بأماكن أخرى لم يزرها أبدا للتعويض عن غيابه. أردت أن أتحول إلى عينيه."85

واستجابة لهذه الأسئلة والهواجس التي شغلت شادي، ودفعته للقيام بهذه الرحلة المعكوسة والمضاعفة، سافر الى بيروت، وحمص وتلكلخ.وقد تملكه سر الأمكنة في إصرارها العنيد على عدم الكشف عن ماضيها الدفين. لأن وجهها المشرق الجميل شوهته التغيرات السوسيولوجية، والتحولات المجتمعية، خاصة ويلات الحرب الأهلية في لبنان، ونظام العائلة الأسدية في سوريا. وقد رأى بأم عينه كيف انحدرت القومية العربية، من فكرة سياسية خطيرة يُسجن ويُعذب ويُقتل ويُهجر بسببها الشباب، مثلما حصل مع أبيه، الى مجرد تمثال باهت على قارعة الطريق. " قبل دخول هذا الشارع، هناك دوار يتوسطه تمثال جمال عبد الناصر، معبود جيل يختفي تحت وطأة وهم هائل، ولكن هذا ربما لا يعني شيئا لكثير من أبناء جيلي."84

إنها رحلة البحث عن الذات، واكتشاف جذور وينابيع التنوع والتعدد المغمور في ذاته، كهوية وانتماء في أمس الحاجة إليه، لاستعادة التوازن الذي خلخلته رحلة الأم الأبدية. عاد الى البيت بمعناه الإنساني العميق بالنسبة للفرد. فعانق الأرض والأهل، وتواصل مع الأمكنة والشوارع في تلكلخ ودمشق وبيروت،  بجنون الرغبة في اكتشاف ما استحال على الأب فعله. وما التزمت الذاكرة تحت وطأة القهر السياسي التسلطي، السكوت عنه وطمسه أو نسيانه. عاد ليفتح لأبيه ممرات آمنة لنشأة مستأنفة للتواصل المفقود مع الماضي، ومع ابنه شادي.

الثورة: حياد صمت الذاكرة أكذوبة كبيرة

ساهمت الثورة في خلق وتقوية سبل وجسور التواصل بين الابن والأب. تفرغا معا بشكل كامل لمناصرة الثورة السورية، ضد الحكم العائلي التسلطي الذي أجرم في حق شعبه. فشاركا بحماس في المظاهرات التنديدية بالخراب والحرائق والدمار، والقتل الهمجي للشعب الأعزل، من طرف النظام الشمولي. فواظبا على الحضور اليومي لتنظيم، وتعبئة الناس للتضامن مع الشعب المقهور الذي يُعذب و يُقتل ويُهجر. حاولا بكل الوسائل الإعلامية والسياسية توضيح شرعية ومشروعية الثورة، من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية. استعملا الساحات لحشد الناس، ووضعا الإعلام، و الرأي العام الغربي في الصورة الحقيقية لما يحدث في سورية. بأن الأمر يتعلق بثورة شعب ضد نظام ديكتاتوري تسلطي. استغلا معا كل الوسائل المتاحة، بما في ذلك المشاركة في القنوات الإعلامية على اختلافها. كما تحمس شادي فرافق الثورة بمقالات، وكتابات وحوارات، لا تقل عن الفعل النضالي والسياسي على الأرض السورية. وذلك لمواجهة التعتيم الإعلامي للدولة البوليسية التي تحرف الحقائق. وتسوق سردية الإرهاب.

في هذه الأجواء التي عصفت بها الصيرورة التاريخية للواقع السوري، تحرر الأب من الرقابة الذاتية، والحراسة المتشددة التي طوّق بها ماضيه، وذاكرته المثخنة الجراح.

فتراجع حياد الذاكرة عن صمته القهري، وانفتحت سبل وقنوات التواصل بينه وبين ابنه شادي. وازداد التقارب بينهما، كآلية لمصالحة الذات، وتقوية الصحة النفسية والفكرية. وكأدوات لتعظيم فرص التواصل وتعرية مناطق الظل المعتمة التي يعيها كل واحد منهما في دواخله، أو تلك التي تفلت من دائرة الوعي، قابعة في كهوف اللاشعور. تفعل فعلها الشنيع في خنق الذات والانكفاء على النفس فريسة للتكرار القهري.

هكذا أسهمت الثورة، في التحرر من كل العفن والقذارة، الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية، التي جثمت على قلوب السوريين لأكثر من نصف قرن. وكان من فضل هذه الثورة على الأب محمد وابنه شادي، أن خاض نوعا من تجربة كشف المخبوء والمستور، والتخلص من الكثير من التحفظات التي رسختها محنة القهر التي تألم من أطوارها الأب، في صمت أقرب للعذاب الأبدي.  ورغم أن معركة الثورة عرفت خيبات ومآسي رهيبة،  وبدا حلم العودة الى البيت بعيدا،في تلازمه البنيوي مع الأهل والوطن، والحرية والكرامة والديمقراطية، فإن الثورة قلبت كل المعطيات والبديهيات القديمة. وتشكل تاريخ جديد يؤرخ ويوثق الحياة الاجتماعية والسياسية تبعا لمفاهيم ما بعد الثورة. هذا يعني أن حلم العودة قد يزهر يوما ما ربيعا جميلا.

والأجمل في هذه السياقات أيضا، هو هذا الكتاب الشائق والممتع. هذا الحوار والتواصل الخلاق، المنمي للأب والابن. هذه الرحلة الجميلة والمؤلمة لتصريف الانكفاء والانغلاقات، من خلال فنية الخطاب السردي الأدبي الجميل. بشكل فني ديمقراطي في الابتعاد عن الذات، للاقتراب من الآخر، ولم لا احتضانه بصدر رحب.

أب وابن، والمأساة السورية

كانت الثورة السورية بمثابة إجابة موضوعية، للهواجس والأسئلة التي دفعت شادي للبحث عن معنى لحياته. والشيء نفسه بالنسبة للأب الذي تحرر، نسبيا، من رعب وطأة الذاكرة في محنتها المؤلمة. فقد تفاعلا معا مع نبض الشارع في احتجاجاته، وثورته. الى درجة أن الثورة شغلتهما وأخذتهما بالكامل. وتابعا بأشكال كفاحية مختلف أطوارها، من الفرحة إلى الخيبة والانكسار. وتألما كثيرا من وحشية النظام وصمت العالم أمام المجازر المروعة. وشعب يُهجر عنوة وقهرا، أمام مرأى العالم الذي غلب المصالح على القيم الكونية، والمعايير الإنسانية، فيالعلاقات الدولية. وفي تدبير الصراعات والحروب، وفي الجرائم ضد الإنسانية.

ولعل محنة الهروب والتهجير و اللجوء، التي عاشها السوريون، شجعت الأب على فتح ممرات المصالحة مع ذاكرته المجروحة. وخروجه من قوقعة النسيان القسري لمرحلة من تاريخه الشخصي. كما تخلص شادي من البعد الذاتي الضيق لأسئلته. ليلتحم بالقيم الإنسانية، في المساندة والتضامن والتآزر، وتقديم يد المساعدة للاجئين.  هكذا تضافرت جهودهما ميدانيا وإعلاميا، لفضح العماء السياسي والإعلامي الغربي، تجاه مأساة الشعب السوري. لذلك عاش الأب والابن  خيبات الفشل والانكسار، وتخلي العالم عن شعبمقهور، مطرود عنفا وقسوة وظلما من بيته وبلده. وفُرضت عليه أهوال ومخاوف التهجير، أمام الحدود المغلقة، والاستغلال القذر من أمراء الحرب بالوكالة. ومختلف أشكال الابتزاز والمساومة على الكرامة، والاغتصاب، أو التعرض للسرقة والنصب والاحتيال...

والجميل في رحلة شادي، أنه كافح في بحثه عن الذات والهوية والانتماء، من منطلقات رفض الظلم والقهر السياسي، وليس فقط  في التعاطف والتضامن مع الأب في محنته، بل أيضا في وقوفه الفاعل مع شعبه،  بمختلف الوسائل الشرعية المتاحة، كتابة، وممارسة، وإعلاميا...

وهذا العطاء الخلاق، هو ما جعل الحلم أكبر من خسارة معركة، عاشت مثلها الكثير من الشعوب في التاريخ البشري...

ماتيلدا : ولادة بسعة وطن بحجم العالم

أمام هذا العطاء، والتفرغ لمتطلبات الثورة الذي قام به شادي، وبسبب الانتكاسة والانكسار والفشل الذي وصلت إلية الثورة، وجد نفسه أمام قدر مغادرة إيطاليا. كما لو أن عائلة بيت حمادي محكوم عليها بركوب صهوة الترحال الأبدي. حيث استنفذ طاقته وجهده الكفاحي في سبيل الثورة، الى درجة أن المكان لم يعد قادرا على احتواء ما يعتمل في أعماقه من تساؤلات وهواجس وتهديدات. لذلك شجعه الأب على المغادرة في اتجاه لندن. معلنا رحلة تتشابه وتختلف، عن الهروب القسري للأب من عنف السلطة الدموي.

هكذا اتسع لديه سؤال الهوية. " ماهي هويتي اليوم؟ هل هي نفس الشيء الذي كنت أبحث عنه بلهفة منذ سنوات؟"198  بل صارت حلمابدولة شاسعة متوسطية. وأكبر من ذلك بكثير، حيث يحلم و يأمل شادي أنتعثر ابنته ماتيلدا على سوريتها، أينما حلت وارتحلت. يعني هذا العثور يوما ما على سوريا بحجم العالم. هذا الأفق الجديد في الرؤية للعالم، هو ما أنتجته الرحلة السابقة، وبلورته تجربة خوض غمار نصرة الثورة.

وفي رحلته الجديدة هذه نحو لندن، لم يعد يشعر فيها بأنه أجنبي، خاصة بعد أن تزوج ورزق ببنت لندنية الولادة."جعلتني لندن في البداية أشعر وكأنني أجنبي. لكن الآن، بفضل ماتيلدا، أشعر بأنني من سكان لندن." 199


الهوامش

محمد، وشادي حمادي "أب واب"  ترجمة يوسف وقاص منشورات المتوسط الطبعة الأولى2022