طفل افروديت صاحب الصوت الماسي ديمس روسوس

لم يكن المعجزة والأسطورة الفنية المولود في الاسكندرية فقط مِن أجمل الأصوات التي عرفتها البشرية بل ومِن أعظمها، فهو صوت سَماوي مُتَفرد لا علاقة له بالجغرافيا الأرضية لا يُشبِه ولا يُشبِهُه أحد صوت قوي ورقيق في آن وله رَنّة لا يخضع لمقاييس القرار والجواب.

في الذكرى الثامنة لرحيل المعجزة والأسطورة الفنية ديمس روسوس، التي تصادف في مثل هذه الأيام، تذكرت ما يكتبه البعض عنه أحياناً من كلام، ظاهره إحتفاء به وبفنه، وباطنه محاولة لإلصاق ونسب إبداعه بمكان وﻻدته مصر، التي غادرها طفلاً. وهو نفس ما يحاولون فعله مع الراحلة زها حديد، التي ﻻ فضل لخلفيتها، جغرافياً ومجتمعياً، على إبداعها المعماري الفريد، الذي كان نتاج موهبة فِطرية ورعاية مؤسساتية حظِيَت بها في الغرب وليس في مجتمعها ومؤسساته.

الهدف طبعاً هو تبرير فشل مجتمعاتنا الطاردة لمبدعيها والحاضنة لفاسديها ومُجرميها، مَع الفارق الكبير بين المُجتمَعين العراقي والمصري لصالح الثاني.

لم يكن روسوس فقط مِن أجمل الأصوات التي عرفتها البشرية، بل ومِن أعظمها، فهو صوت سَماوي مُتَفرد لا علاقة له بالجغرافيا الأرضية، لا يُشبِه ولا يُشبِهُه أحد، صوت كالماس، قوي ورقيق في آن وله رَنّة، لا يخضع لمقاييس القرار والجواب، صوت فيه روح الشرق والغرب وعظمة الطبيعة الإنسانية بكل تجلياتها. لكن للأسف شعوبنا لا تزال، حتى على مستوى النُخَب، عَصِيّة على فهم واستيعاب فكرة عدم الإنتماء لجغرافيا أو مُكَوِّن إثني أو مجتمعي أو ديني أو طائفي!

وُلد أرتميوس فنتوريس روسوس في15 يونيو/حزيران 1946 لوالدين من أصول يونانية في الإسكندرية، تلك المدينة العالمية التي لطاما كانت بوتقة لصَهر الثقافات والأديان، فنشأ مع جنسيات مختلفة، ثم التحق بمدرسة يونانية، وكان يغني في كورال الكنيسة الأرثدوكسية. خلال أزمة السويس ساءت ظروف العائلة فعادت إلى اليونان، حيث تعلم هناك العزف على البيانو والغيتار، ومن يومها بدأت رحلته الموسيقية التي رعاها والديه، كان زاده فيها الروح العالمية للإسكندرية، وأذناً جمعت بين موسيقى الجاز الغربية والمقامات العربية الشرقية والترانيم الرومية الأرثدوكسية. وكان لصوت الآذان ولترانيم جوقة  الكنيسة، كما لأجواء المحيط الإسكندراني المتنوع الذي نشأ فيه، تأثير على تجربته وهويته الموسيقية التي تبلورت فيما بعد. فالشرق والغرب حاضران معاً موسيقياً في أغلب أغاني ديميس روسوس. وهذا ما يجعلها مُمَيّزة للغاية. لكن بِغَض النظر عن خلفيته العائلية ومسقط رأسه، يعود الفضل في شهرته قبل كل شيء الى موهبته الاستثنائية، والى صوته الفريد من نوعه في تعَدّد طبقاته، والى جاذبيته التي لا تُضاهى على المسرح، بالإضافة إلى شغفه العميق بالموسيقى.

بسبب طبيعة النظام الذي حَكم اليونان في شبابه، غادر روسوس إلى باريس وأسس فرقة Aphrodite’s child أي "طفل أفروديت" مع الموسيقار فانجيليز باباثناسيو، الذي اشتهر لاحقاً باسمه الأول. مع أغنية "Rain and Tears" حقق الشابان المغتربان نجاحاً كبيراً بعد أن بيعت منها أكثر من مليون نسخة، لكن بعد ثلاثة ألبومات تفككت الفرقة وذهب روسوس منفرداً وأثبت وجوده بأغنية "We Shall Dance" التي تصدرت قوائم الأغاني العالمية لأسابيع، لتتوالى نجاحاته بأغاني مثل"My Friend The Wind" و "Someday Somewhere"، ثم جائت رائعته "Goodbye My Love Goodbye" التي جعلته نجماً عالمياً، وقد سجلها عام 1973 بعِدة لغات وغنائها للعديد من نجوم الغناء.

في عام 1975 كان لديه خمسة ألبومات بالمراكز العشرة الأولى في وقت واحد. بعدها مع"Forever and Ever" التي سَجّلها عام 1976  دخل روسوس موسوعة جينيس للأرقام القياسية لبيعه أكثر مِن 15 مليون أغنية فردية في جميع أنحاء العالم، تلتها أغنية"My Friend The Wind" التي ذاع صيتها أوروبياً. وبات واضحاً أن روسوس يتجه نحو موسيقى البوب والألحان الرومانسية التي شكلت مع صوته فيما بعد لونه الغنائي الساحر الذي غزا به قلوب الملايين وباع منه أكثر مِن 60 مليون ألبوم حول العالم.

ورغم قدرته الصوتية على أداء الأغاني المعقدة، إلا أنه ظل وفياً للونه المتفرد الذي حَقّق به نجاحاته، وجعل منه أحد أساطين الغناء. وكانت آلة البزوكي الموسيقية حاضرة بقوة في أغلب أغانيه الشهيرة، فبعضها تبدأ به، ولحن بعضها الآخر يعتمده كآلة أساسية بما يشبه فكرة الكونشيرتو، وهو ما يعكس تعلقه بها وبصوتها ودلالاته المرتبطة باليونان. 

رغم تغير المدارس الموسيقية، ومعها الأذواق، بقيت أغانيه متفردة وحاضرة تتناقلها الأجيال. فكم مِن حبيبة استمتعت الى "Far Away" مُنتظِرة حبيبها ليأتي ويأخذها بعيداً! وكم مِن عاشق أهدى حبيبته أغنية "Forever and Ever" ليخبرها بأنها ستبقى بالنسبة له، والى الآبد، كشمس الصباح. حتى حينما غَنّى روسوس بعضاً من أغاني من سبقوه، مثل "Smile" رائعة نوت كين كول المقتبسة مِن فيلم "الأزمنة الحديثة" للأسطورة شابلن. أو"Lost in Love" لفرقة Air Supply في دويتو مع المغنية فلورنس وارنر، رغم أنها حسب وجهة نظره لم تحقق النجاح التي توقعه لها. أو حينما غنى الآخرون أغانيه مثل"Forever and Ever" التي غناها خوليو غليسياس، الذي يقال أنه مَن لقبه بـ"صاحب الصوت الماسي" عِندما سُئِل عنه بأحد الحوارات الصحفية، بقيت بَصمَته الأكثر حضوراً، ليس بمعنى أنه غناها أفضل، فأدائهم جميل بلا شك، لكن أداءه يبقى متفرداً بفضل طبقات صوته التي تغطي جميع الأحاسيس المرتبطة بموسيقى الأغاني وكلماتها.  

لم يهدأ ديمس روسيس خلال مسيرة حياته الحافلة، فقد أصدر ألبومات بلغات مختلفة، وذهب عدة مرات في جولات حول العالم، وجَرّب أنواعاً موسيقية مختلفة بما في ذلك الأوبرا. كان لصوته سحراً جمع بين القوة والعاطفة لم يجاريه فيه أحد، فقد كان ولا يزال وسيبقى لديه معجبين في كل مكان لن ينسوه أو ينسوا أغانيه، لأنها فريدة كصاحبها. موسيقاه التي كانت تحمل دائماً عنصر الشوق وعَبَق السبعينات، والحنين الذي كان جزئاً من المَلمس الفريد لصوته الآسِر، منحته عقود من النجومية العالمية غير المسبوقة. حتى في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينات عندما تحدّت الأنماط الجديدة مكانته العالمية، إستمر روسوس بكونه أسطورة، وكانت حفلاته الموسيقية تحقق نجاحاً كبيراً أينما حَل وإرتحَل.

لديه معجبين في كل مكان لن ينسوه أو ينسوا أغانيه، لأنها فريدة كصاحبها

بدأ حضوره يتقلص بعد ظهور ديسكو الثمانينات برِتمه السريع وموسيقاه العالية التي لم يستطع مجاراتها والتنافس معها، ولم ينجح صوته الحنون بالتأقلم معها رغم محاولته ذلك. رغم ذلك، واصل روسوس جولاته حول العالم حتى منتصف التسعينيات، وكان الجمهور يستقبله بالتصفيق الحار. أواخر عام 2009 أصدر ألبومه الأخير، الذي كان مفاجأة لمعجبيه، كما لو كان يحاول اللحاق بالركب الذي فاته بعد أن كان يتصدره قبل ربع قرن، فقد حاول من خلاله أن يعود إلى موسيقى الروك التي بدأ بها، لكنه للأسف لم ينجح لأنه غالباً لم يَرُق للجيل الجديد، ولا لمعجبيه المُزمنين الأكبر سِناً، لذا لم ينجح في الاستجابة للأذواق الموسيقية الجديدة، كما لم يكن بمستوى أغانيه الأسطورية التي صَدح بها في السبعينات، لكنه رغم ذلك لم يتوقف عن الغناء وإطلاق الأغاني الجديدة حتى رحيله.

ربما لم يستطع روسوس مجاراة الصرعات الموسيقية التي جاءت بعده، رغم محاولته فعل ذلك، لأن الناس لم تنجذب كثيراً لهذه المحاولات، كونها إعتادت منه على لون معين متفرد، إلا أنها في نفس الوقت كانت تعود دائما إلى روائعه التي بقيت خالدة تسمعها وتردها الأجيال جيلاً بعد جيل. 

تزوج روسوس أربعة نساء، ثلاثة مِنهُنّ فرنسيات، ولديه طفلان من الثانية والثالثة، هما إبنته إميلي وإبنه سيريل، إلا أن حياته العاطفية كانت مليئة بالمغامرات. كان مُحِباً لجمهوره، الذي كان مخلصاً له في كل مكان، لكن عَينه ظَلّت دائماً على مُعجبيه الفرنسيين الذين كانت تربطه بهم علاقة من نوع خاص لحبه لبلادهم التي كان يصفها ببلده الثاني. وللتعبير عن هذا الحُب أصدر عام 1977 ألبوماً باللغة الفرنسية، وحتى الأغنية التي تتغنى ببلاده "اليونان"، التي ضَمّها ألبومه الذي أطلقه عام 1988 بنفس الإسم، غناها بالفرنسية بدل اليونانية.

رغم أن جيلنا لم يُعاصر بداياته ونجاحاته وإطلاقه لأغانيه، التي كانت "تكسّر الدنيا" كالأجيال التي سبقتنا، إلا أن جيلنا كبر معها ومع صوته وهو يَصدح بها فأحببناها ودخلت قلوبنا مباشرة، لأنها كانت مختلفة عَمّا سِواها من أغاني جيله، التي كنا حينما نسمَعها نُخضِعها لمقياس زماننا، فإذا تطابَقت معه قبلناها. أما أغانيه فلم تخضع لهذا المقياس لأنها كانت خارج نِطاقه، فلا هي روك ولا بوب ولا جاز ولا بلوز ولا ديسكو، ولا أي شيء في هذا العالم سَبَق ظاهرة روسوس أو تلاها، هي حالة ديمس روسيسية بذاتها، بكلماتها وألحانها، والأهم بصَوته الذي كان يصدح بها، وحينما إجتمعت هذه العوامل الثلاثة في لحظة من عُمر الزمن مَنَحَتنا مُعجزة لن تتكرر.

مع تصاعد شهرته خلال السبعينيات، وإزدياد وزنه تدريجياً، بدأ روسوس بإرتداء ملابس فضفاضة تشبه ملابس الملوك والبطاركة التي باتت ماركته المسجلة وجزئاً من شخصيته الغنائية، وفيما بعد موظة للشباب البوهيمي في زمانه، رغم أنه لم يكن بوهيمياً، حتى أن الفنان الراحل يونس شلبي قلده في أحد أفلامه بوضع لحية وإرتداء ملابس تشبه ملابسه. ولا أحد يعلم إن كان روسوس قد فعل ذلك لأن هذه الملابس تعجبه، أو لإخفاء سمنته حيث وصل وزنه إلى150 كغم في مرحلة ما، رغم محاولاته المتكررة لإتباع نظام غذائي، كما صرح مرة، فقد قال أنه جَرّب كل أنواع الحِميات وكانت فعالة، لكن المشكلة كانت بإخفاقه في الإلتزام بها. وقد أراد أن يشارك الناس تجربته هذه، لذا قام بتأليف كتاب "كيف فقدت الوزن"، الذي بيعت نسخه الكاملة في غضون أسابيع قليلة.

في عام 1985 أثناء محاولته للإمساك بما تبقى له من أضواء، كان في طريقه من أثينا إلى روما عندما تعرضت الطائرة التي كان يستقلها الى عملية إرهابية، حيث تم إختطافها من قبل  مسلحين من حزب الله والجهاد الإسلامي وتم احتجازه كرهينة. وقد إستذكر هذه التجربة بمرارة عام 1987 خلال ترويجه للألبوم الذي أطلق فيه مجموعة أغاني بالفرنسية والإنكليزية "قصة ديمس روسوس"، قائلاً إن مواجهة الموت قد غيرت حياته إلى الأبد: "قررت أن أستخدم أسلحتي الخاصة وهي الغيتار والبيانو والمكروفون وروحي وأغنياتي، وأُقَدِّم ما يحبه الناس، وهو ألبوم يضم جميع أغنياتي لآخر20 عاماً".

أصدر روسوس 42 ألبوم خلال حياته المهنية، ونُشِرت سيرته الذاتية في أغلب بلدان العالم. رغم هذه الشهرة الطاغية، إشتهر روسوس بكونه شخصية بسيطًة وودودة للغاية، يُحب السير في الطرقات، والإختلاط بالناس والحديث معهم، والإستمتاع بالطعام المحلي أينما ذهب. هكذا أيضاً كان رحيله، هادئاً وبسيطاً بدون أضواء أو ضوضاء. "أنا في أثينا، في موطني بين البحر والجبل" هذه كانت كلماته الأخيرة، حيث توفي ليلة السبت في 25 يناير/كانون الثاني 2015، كما أكدت إبنته إميلي التي أعلنت نبأ وفاته في المستشفى عن 68 عاماً، بعد معاناة مع سرطان المعدة، الذي تم تشخصيه متأخراً عام 2014. وقد أقيمت جنازته في 30 يناير/كانون الثاني، ودُفن في مقبرة أثينا الأولى، التي تضم رفات الشخصيات السياسية والثقافية اليونانية منذ العصور القديمة.