عسكر السودان باتوا يعرفون حدودهم

على المدنيين في السودان التحلّي بالحكمة والاقتناع بانّ تقاسم السلطة مع العسكر ضروري.
تسوية مؤقتة لم يكن في استطاعة أي من الطرفين تفاديها
حمدوك متفهم للمعادلة الدقيقة التي يمكن ان تهيئ لمرحلة جديدة تغني عن سقوط السودان

يبدو الاتفاق السياسي الذي توصّل اليه العسكريون والمدنيون في السودان اقرب إلى تسوية مؤقتة لم يكن في استطاعة أيّ من الطرفين تفاديها. لا غنى للعسكر، على رأسهم عبدالفتاح البرهان، عن المكوّن المدني ولا غنى للمكوّن المدني ممثلا برئيس الوزراء عبدالله حمدوك عن العسكر. تبيّن أنّه لا يمكن لأيّ حكم مدني ان يستمرّ، اقلّه في المرحلة الراهنة، من دون تغطية من العسكر الذين تحولوا الى حاجة سودانيّة في ضوء فشل تاريخي في إقامة نظام سياسي قابل للحياة وذلك منذ الاستقلال في العام 1956.

اجبر المجتمع الدولي كبار العسكريين على إعادة حمدوك الى موقع رئيس الوزراء. اكتشف هؤلاء انّ ليس في استطاعتهم الاستيلاء على السلطة وتكرار تجربة عمر حسن البشير التي استمرت ثلاثة عقود. غيّرت تلك التجربة في عمق السودان، خصوصا انّ البشير كان مستعدا، من اجل الاحتفاظ بالسلطة، لعمل كلّ ما هو مطلوب منه. شمل ذلك الاستفتاء على انفصال جنوب السودان الذي صار دولة مستقلّة منذ التاسع من تموز – يوليو 2011. لجأ في مرحلة معيّنة الى القمع الوحشي في ولاية دارفور مستخدما الجنجويد. لكنّ الاهمّ من ذلك كله ذلك التغلغل للإسلاميين، من تنظيم الاخوان، في كلّ مرافق الدولة. من دون المؤسسة العسكرية، ليس ما يضمن عدم عودة جماعة البشير الى السلطة. الواضح أنّ العسكر في السلطة يمنعون انقلابا عسكريّا جديدا.

لولا كبار الضباط، في مقدمهم البرهان ومحمّد حمدان دقلو (حميدتي)، لما كان عمر حسن البشير تنازل عن السلطة بسهولة وذلك على الرغم من الثورة الشعبيّة التي واجهت حكمه، وهي ثورة استمرّت اشهرا عدّة. اثبت المجتمع المدني السوداني قدرة على الصمود والمواجهة. لكنّ ما لا مفر من الاعتراف به انّ المكوّن العسكري حسم الامر في نهاية المطاف وتفادى مجازر في الشوارع كان الديكتاتور المخلوع مستعدا لارتكابها من اجل البقاء في السلطة. اكثر من ذلك، لعب البرهان ورفاقه دورا في تمكن السودان من العودة الى الاسرة الدوليّة وتغيير طبيعة الموقع الإقليمي للسودان في المنطقة والعالم بدءا بالتوقّف عن ممارسة لعبة الابتزاز التي اتقنها عمر حسن البشير.

ماذا بعد الاتفاق السياسي الذي أعاد عبدالله حمدوك الى موقع رئيس الحكومة؟ سيطرح هذا السؤال نفسه بإلحاح في الأسابيع القليلة المقبلة، لا لشيء سوى لأنّ على كلّ من الجانبين إيجاد صيغة تعايش مع الآخر. يدرك العسكر أنّ لا مساعدات دوليّة من أيّ نوع من دون حكومة مدنيّة من جهة وأنّ عبدالله حمدوك ما زال يتمتّع برصيد لدى المؤسسات المالية العالميّة مثل البنك الدولي وصندوق النقد من جهة اخرى. ليس في الولايات المتحدة او أوروبا من هو مستعد لمساعدة السودان في حال العودة الى حكم عسكري اكان رأسه البرهان او غير البرهان.

في المقابل، تحتاج المنطقة، خصوصا منطقة وادي النيل والبحر الأحمر والقرن الافريقي، الى سودان مستقرّ. فشل السياسيون السودانيون في تأمين مثل هذا الاستقرار. اثبت عبدالفتاح البرهان انّه يمتلك ما يكفي من الشجاعة، ليس لردع انصار البشير ومنع عودتهم الى السلطة فحسب، بل في إقامة علاقات من نوع جديد مع دول المنطقة أيضا، بما في ذلك مع مصر ومع دول الخليج العربي. علاقات مبنيّة على الثقة المتبادلة اوّلا.

يبحث السودان عن مستقبل افضل. اذا كان من درس يمكن تعلّمه منذ العام 1956، فإنّ هذا الدرس يتمثل في الحاجة الى صيغة جديدة تضمن نوعا من التوازن بين المكوّن المدني من جهة والعسكر من جهة أخرى. لم يأت عمر حسن البشير من فراغ. اتى من فشل الاحزاب السياسيّة في مرحلة ما بعد سقوط جعفر نميري في العام 1985. شهدت تلك المرحلة عودة الى الحكم المدني. لكنّها شهدت أيضا فوضى سياسيّة ما لبث ان استغلّها حسن الترابي، الذي كان واجهة للإخوان المسلمين ولمجموعة من الضباط الذين يسيرون في هذا التوجّه. ما لبث البشير ان انقلب على الترابي في لعبة لا افق لها سوى السلطة.

من الواضح انّ العسكر اكتشفوا حدود ما يستطيعون عمله، أي ان يكونوا غطاء للمدنيين. اضطروا الى إعادة حمدوك إلى موقع رئيس الحكومة. ادركوا ان ليس في استطاعتهم الذهاب بعيدا في انقلابهم. سيكتفون في المرحلة المقبلة بإثبات انّهم الطرف القادر على اتخاذ قرارات كبيرة وحمايتها. هذا يعني بكل بساطة ان عليهم الاعتراف بأنّ العالم ليس مستعدا لإعطائهم شيكا على بياض في غياب الشراكة مع المدنيين الذين عليهم واجب إعادة الحياة إلى الاقتصاد الذي يعاني من حال يرثى لها.

ما الصيغة الجديدة للتعايش بين العسكر والمدنيين في السودان؟ قد يكون السؤال الاهمّ هل من أمل في إيجاد مثل هذه الصيغة، خصوصا في ظلّ التجاذبات بين المدنيين انفسهم. ادرك العسكر حدود ما يستطيعون عمله. يُفترض في المدنيين اظهار استعدادهم لتقبل وجود توازن معيّن في البلد. يبدو انّ عبدالله حمدوك متفهم لهذا الوضع ولهذه المعادلة الدقيقة التي يمكن ان تهيّء لمرحلة جديدة تغني عن سقوط السودان في مرحلة جديدة من المماحكات الداخليّة التي لا طائل منها. فهم العسكر اين حدودهم. اكثر ما فهموه ان تجربة البشير لا يمكن ان تتكرّر، كذلك تجربة جعفر نميري. لا وجود في العالم، حتّى في افريقيا من هو مستعد لتقبل انقلاب عسكري جديد. لكنّ على المدنيين في السودان التحلّي بالحكمة والاقتناع بانّ تقاسم السلطة مع العسكر ضروري في هذه المرحلة التي يمر فيها السودان والمنطقة كلّها. سيتوجب على المكون المدني في السودان اثبات انّ ثمة شيئا غير الشعارات في هذا العالم وانّ الحاجة اكثر من أيّ وقت إلى اثبات نضج سياسي في بلد مهدّد في كلّ وقت بدخول حال من التفتت.