في رحيل 'كوكب' الملحنين العراقيين

الملحن العراقي الكبير كوكب حمزة يصبح آخر حلقات السلسلة الذهبية لمبدعين ترجلوا عن الحياة وهم يعانون من صقيع وقساوة الغربة بعيداً عن وطنهم العراق في منافيهم الإجبارية.

مازالت الغربة، بكل تلاوينها الحلوة والمرة، الملاذ الدائم لرحيل كبار مبدعي العراق والعلامة البارزة التي لازمتهم في منافيهم الإجبارية، وهم يعانون من صقيع وقساوة الغربة بعيداً عن وطنهم العراق، هرباً من سطوة وهيمنة الاستبداد والديكتاتورية البغيضة، وكان آخر حلقات السلسلة الذهبية لهؤلاء المبدعين الملحن العراقي الكبير كوكب حمزة، الذي رحل في أحد مشافي العاصمة الدنماركية كوبنهاكن عن عمر ناهز الـ 80 عاماً، بعد معاناة من المرض، تاركاً وراءه نحو 50 لحناً.

في قراءة لسجله النضالي.. كان كوكب حمزة من كبار مبدعينا الذين ينتمون الى نخبة الفنانين الملتزمين الذين تمردوا على السلطة الديكتاتورية التي حكمت العراق طوال ثلاثة عقود ونيف، واضطروا الى ترك الوطن واللجوء الى بلدان بعيدة للخلاص من الملاحقة والاعتقال والتعذيب، الذي كان الأسلوب المفضل لها يوم كانت تلاحق كل من يرفع إصبع الاحتجاج على سياساتها القمعية.

لقد حفل سفر كوكب حمزة الإبداعي بالعديد من "الجواهر الغنائية" التي ترنم بها أبناء الرافدين في وطنهم ومنافيهم وغذت وجدانهم الوطني والإنساني والعاطفي، ومازالت تزداد لمعاناً وإشعاعاً، وسيبقى، وألحانه خالداً، في ضمير أبناء الرافدين ما بقيت "الطيور الطايرة" تحلق فوق الرؤوس وما زالت "يا نجمة" تتلألأ في السماء.

المتصفح والمتتبع لسيرة كوكب حمزة المولود في ناحية القاسم بمحافظة بابل، يجده محباً وشغوفاً بالموسيقى والألحان، التي صقلها بالدراسة الأكاديمية في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وأكملها بدراسته في معهد الدراسات الموسيقية، وبدأ حياته المهنية معلماً في مدرسة المربد في البصرة، وبسبب تخرجه من معهد موسيقي أصر زملاؤه على أن يقوم بالتلحين.

أصبح كوكب حمزة ملحناً معروفاً ومتميزاً، وكان من أكثر الملحنين العراقيين منذ ستينيات القرن العشرين إنسجاماً وتجلياً، مع حركة التطور التي أدت إلى ظهور موجة الأغنية العراقية الحديثة، التي كانت تحمل ملامح جديدة في أسلوب البناء الموسيقي والآفاق التعبيرية في الألحان وفي الأصوات الجديدة التي خالفت المألوف في شكل الأغنية، وكان أول ألحانه قطعة موسيقية بعنوان "آمال". وكانت أول تجربة له في صياغة الألحان أغنية بعنوان "مر بيّه" عام 1969، للمطربة غادة سالم، وهي باكورة أعماله الغنائية في الإذاعة العراقية، ثم أغنية "يا نجمة" كلمات كاظم الركابي، وغناء حسين نعمة، وحققت نجاحاً كبيراً، آنذاك، ثم توالت ألحانه ونجاحاته ليصبح أحد أبرز فرسان اللحن العراقي وتجديد الأغنية العراقية، منذ بداية سبعينات القرن الماضي، من خلال الأسلوب الموسيقي والإيقاعي وكذلك من ناحية المضمون، من خلال تعاونه مع شعراء شعبيين معروفين، مثل أبو سرحان وغيره.

تواصلت عطاءاته اللحنية الجديدة ليلحن للعديد من الفنانين العراقيين والعرب مثل: مائدة نزهت "همه ثلاثة للمدارس يروحون"، سعدون جابر "أفيش - يا طيور الطايرة، بساتين البنفسج، مكاتيب، من تمشي"، حسين نعمة "يا نجمة"، ستار جبار، فاضل عواد "شوق الحمام"، كريم منصور "محطات"، فؤاد سالم "تانيني، وين يا المحبوب"، والمطربة السورية أصالة نصري حين كانت في بداياتها، والمطرب الكويتي عبد الله رويشد، وغيرهم الكثير.

أطلق النقاد على الملحن الكبير كوكب حمزة لقب "مكتشف النجوم"، فهو من اكتشف أفضل الأصوات العراقية مثل حسين نعمة، ورياض أحمد، وستار جبار، وسعدون جابر، وعلي رشيد، كما قام باكتشاف المطربة المغربية أسماء المنور، وهو أول من قدمها للجمهور حين لحن لها أغنية "دموع إيزيس" عام 1997 وهي من كلمات الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم والتي قدمت في القاهرة بمناسبة الاحتفاء بالشاعر أحمد فؤاد نجم في عيد ميلاده السبعين.

كان كوكب حمزة أحد رموز الحركة الوطنية العراقية التي عارضت النظام الديكتاتوري، وقتها كان أستاذاً في جامعة البصرة، ولهذا عندما كان يكلف بتلحين قصائد لتمجيد رموز النظام السابق كان يرفضها، فمنع النظام تداول أغانيه وعد حيازتها جريمة يعاقب عليها، ولكنها بقيت متداولة في الجلسات الخاصة.. فاضطر للهرب من العراق يوم 21 تموز/حزيران 1974، لشعوره بالاغتراب بسبب ما وصفه بمصادرة الحريات، وتوجه إلى تشيكوسلوفاكيا ومن ثم إلى الاتحاد السوفييتي، ودرس الموسيقى في أذربيجان وتنقل ما بين كوردستان وسوريا وأميركا، حتى استقر في الدنيمارك منذ العام 1989، وفي المهجر أصدر قطعة موسيقية بعنوان "وداعاً بابل" عام 1992 ثم قدم أغنية بعنوان "الجراد يغزو بابل"، ولم يتوقف عن تطوير قدراته وأدواته الموسيقية، فبعد مكوثه في أوروبا قرر الانتقال للمغرب ودراسة الموسيقى، فتعرف هناك على فاطمة القرياني التي قدمت بعضاً من أغانيه.

لقد رحل "كوكب" الملحنين العراقيين وستظل ألحانه التي صاغها بأجمل الأغاني الباذخة بالجمال والأصالة والإحساس المرهف راسخة في ذاكرة الأجيال العراقية والعربية.