قصائد شجن يختلط بكاؤها بالكلمات لحيدر عبدالخضر

ديوان 'ماغادره الموج واطفأه الهديل' يقدم مجموعة من القصائد احتشدت بصور شتى من صور قوة الإرادة الإنسانية وفيها تجسيد حي لرغبة الانفلات من مناخات القهر والانكفاء والهزيمة.

"الى اصدقائي عصافير الوطن..الذين حاولوا إطفاء حرائقه بأجسادهم الغضة و حناجرهم الندية..واليها..وهي تبتكر معنى جديدا للطفولة والحياة .."

يمثل الاحتفاء بما يسمى بحمى القصيدة ومفرداتها مركز ثقل النص الشعري عند شاعر مهم، اعتبره ومنذ قرأت مجموعاته الشعرية الأولى إضافة نوعية في نص المغايرة وتجديدها في اللغة، قصائد بثيماته المكتنزة بالحماس والالم والغنائية معا، الشاعر بقدرته على التجريب في أقانيم اللغة، قدمت كشوفات جمالية باهرة، وعمقت من مفهوم الخطاب الحجاجي .

في تجربة الشاعر حيدر عبد الخضر نستشعر مكابدات الذات في حوارها مع ما يعتري هذه الذات من علل نفسية-اجتماعية. تستشعر غربة أو معاضلة ذلك أن الشاعر يتوحد مع تجربته كل التوحد، فهو يكتب ما يعرف، ويعيش يوميا في نفس الأجواء التي يعالجها في نصوصه. ليس معنى هذا أنه يستسلم لرتابة الحياة التي يعرفها بل أنه يقدم على مغامرات أسلوبية بليغة تعلن عن روح متحررة من الجمود، والتقليد، والتكرار. وما سنجده هنا تفصيلات من قهر وعسف ، وما يصادفنا داخل تلك النصوص من خوف ورهبة ومواجه وموت.. ديوانه الشعري الجديد للشاعر "ما غادره الموج واطفأه الهديل" للشاعر حيدر عبد الخضر والصادرة عن دار الورشة للطباعة والنشر 2022.

كتب مقدمة هذا الديوان الاستاذ الناقد علي حسن الفواز .."كتب الشاعر حيدر عبدالخضر قصيدته وكانه يتأمل العالم ويشارك لعبة الرؤيا والبحث عن المعنى الخبيء في الاستعارات ,فالقصيدة تنسل تخاتل تتقصى تنفتح على أفق يتسع للغواية والرغبة في التمرد والسعي لاضطهاد "الفكرة الهاربة" أو الجمال الهارب" وبما يجعل لعبة الكتابة وكأنها لعبة في استدعاء الوجود عبر اللغة وعبر الألم حيث يندفع الشاعر الى التأمل بوصفه عناء او بحثا عن التلذذ بسخونة الاشياء عبر الكلمات او استدراكا لما لا يدرك الا عبر شراسة تلك الرؤيا".

إن تأمل تجربة الشاعر حيدر عبدالخضرالشعرية تفضي بنا إلى انه شاعر في حالة نضال أبدي مسكون بتحرير اللغة أو الكلام من كبريائها الذاتي، ويدخلها في كبرياء الرؤية، هو شاعر الرؤية يتجلى ذلك من خلال عناوين القصائد و الدواوين ، يخلق نصوصا لا تتشابه مع صورة الآخرين، وحتى مع نصوصه السابقة، تجربته لا تستقر على صنف واحد من الكتابة، يتجدد في شاعريته معتمدا على الرؤية والخيال، ينطلق عند كتابة عناوين دواوينه من خاصية الانفتاح محاولا المزاوجة بين الذاتي /الموضوعي.

"ابدد المكوث بالشجن- رهان الخاسر-وشايات-سنابلك والمرايا-مكائد-ثرثرات وحقائب-نثيث مبكر-ما تركه البرق-والاصدقاء-دسائس...واقنعة-ما تساقط منك-لا وقت يتسع للتثاؤب والجنون-فرائس العدم- وشم للذاكرة ذاكرة النبع-عزلة بليغة-روضها بالخور والطعنات-طفل الضوء- أبناء المواعيد المؤجلة-لا احد يدلنا عليك .."

اقتباس:

ضع راسك على نفس الجدار

الذي تحول الى وشم

وذاكرة للذبول

وسبورة لبسلمة الغياب

ازح كل احلامك

والمدن الملفقة

وابدا بتدوين طعناتك

بشاعرية تحتوي على رؤى لا تعترف بالحدود ، شعره صار ينظر ما لاتراه عيناه، المغامرة والجدية والحركة بدل الثبات تهندس حياته و تحتل شخصيته، هذه المغامرة والحركة تكونت من خلال الجدية وتناول الأشياء بمنطق التحريض لا المهادنة ..

كما أن تجربته الشعرية تحتفل بالغنائية والتغيير، و القارئ لهذا الديوان سيجد نفسه محاطا بخطابين من الكتابة المزاوجة الذاتي -الموضوعي. نجد أنفسنا أمام خصوصية شعرية مغايرة عما سبقتها من تجارب الشاعر.

اقتباس:

الطريق إليك

مكتظ بالعثرات

لا اجد وقتا كي اتسلل

الى حديثك الغامض

ولا استطيع التغاضي

عما تساقط ...ص26

أن هذه التجربة، تزاوج بين روح الحماس والغنائية الشعرية في صورة شعرية ما أروعها ، فالكلمات عند الشاعر كلمات تحدد منهاج التراتبية عند تركيبها. لا يترك شيئا على هيئته، ففي النص يجب الاعتناء بمعمارية النص كمن يبني جسده وروحه بالكلمات. ويصوغ شيئا مغايرا لأن الكلمة لم تزل عصية في حضرة المقاومة والتصدي. الكتابة عنده هي ضرب من دفق الأمل في العالم..

اقتباس:

سادر عن الغي

ومتورط بالعناد

كم أفلتت مني...

اغان بريئة

وحلق فوق راسي

سخام عتيق...ص36

إن الشاعر أبدع في وصف شخصيته وتصوير الإخفاقات التي لمت بأمانيه، منتصرا على فضح ذاته كلما تقدم في العمر حين تفاقمت فيه شهوة المسائلة . لم يعد جسده قادرا على عبء الروح التي تتفلت مثل نار تفيض على الموقد. يدعي بأنه منذور للموج العالي في بحر متلاطم موجه الذي لم يحسن العوم فيه أبدا .

اقتباس:

هي ذات المدينة

التي طحتني شوارعها

واربكتني عيون اطفالها

هي نفس الحقائب

التي تعثرت

بنواياها كثيرا

حين باغتتني ...68

تمثل الثنائيات الضدية عنصرا أساسيا في نصوص الشاعر ؛ فالوجود كله يقام على حركة الأضداد –متظاهر/قاتل -، ومن خلال ما يمثله الصراع قائما، وقد نتوقف قليلا أمام ما يمثله الاخر الملثم ،وهي تخرج من رحم الليل ,تترصد من ينادي بالحرية ," نعثر على تلك الثنائيات متمثل ب الفعل الإنساني، والثنائيات القدرة على إبراز الأضداد، وتوليد الدلالات بما تقدمه لنا من عملية مساءلة للذات البشرية في عمقها واتساعها، ربما مايقلق الشاعر- القارئ- المتظاهر- عن معنى قتل الذي يختلف معك , وهي أسئلة قلقة وحائرة لكنها ليست عصية على الإجابة..

اقتباس:

"الى من لوثوا هواء الوطن...

بأنفسهم الكريهة وارواحهم الكريهة...

تحت الحجر وعلى الشرفات

ينبثق ظل خافت

مزامير على الرؤوس

تنتمي لقفص الأساطير

تنبت وصاياها المخدرة

ونبض يتمتم ...ص51

ليس من شك في أن المتعة الفنية متحققة في القصائد ، وهذه مسألة ضرورية لكل شاعر مجيد، من رهافة وجمال وعذوبة ، فكل نص يمنحنا معرفة حقيقية بأحوال أبطال التظاهر "التشرينين"، وفي ذات الوقت يقدم كشفا جمالية ذاتية . فيكشف عن كم اللوعات التي مسَّت الذات -البلاد والعباد من خلال أحداث واقعية لكنها لا تخلو من مسحة شعرية جمالية خلاقة.

اقتباس:

تشبث بها جيدا

ولاتدعها تفلت من قبضتك

كن راسخا

و ملتصقا بمساماتها

وامنحها شيئا من العنفوان

والضجيج والتمرد

ما تركه غيرك

اكمله بكل محبة وغواية....95

أن الخطاب الحجاجي لدى الشاعر يتسم بنصوعه، وذلك لأسباب موضوعية منها ان الشاعر يمتلك رؤية فكرية يعمل على تسريبها خلال هيكلة القصيدة، كما أنه متفهم لعنصر مهم وبناء، وهو إمكانياته في بناء معمارية النص بدقة حيث يعمل عليها على مهل، محاولا أن يحقق نوعا من توافق اللمسة الانسانية- اللغة المستخدمة في قصيدة الحجاج بشفافيتها وبساطة مفرداتها، ووقعها الحزين والمؤلم، وهو ما يميز قصائد حيدر عبد الخضر الذي تقترب لغته أحيانا من تخوم السردية الشعرية .

اقتباس:

يسقطون من فم الحياة

حكاية مرة

وموجزا لقوانة قديمة

روتها شفاه ذابلة

يتوزعون مع كل خيط دخان

فتلتقطهم الاشارات والصدف

كلما هرولوا

باتجاه الشمس...ص101

وفي النهاية ..اقول الديوان مجموعة من القصائد احتشدت بصور شتى من صور قوة الإرادة الإنسانية، وفيها تجسيد حي لرغبة الانفلات من مناخات القهر والانكفاء والهزيمة. وان الشاعر قد أوغل في قصائده فهما وتعاطفوا وتورطاً حميداً في حياة هؤلاء الشباب "التشرينين" ؛ فعبر عن صبواتهم، وأحزانهم، ومباهجها بصدق وحب واستبصار إنساني عميق، وأنه لم يعرف التنازل عن إخلاصه لمدينته التي حملته طفلا فشابا وهو يحمل سرها الدفين، وقد حق عليه أن يحملها في قلبه مهما أوغلت الأيام في تحولاتها المؤلمة، وتغيراتها الماكرة.