قلق وجودي للكائن البشري 'في الشارع المقابل لجرحنا القديم'

الشاعرة المغربية تورية لغريب تكشف في هذا الحوار عن عالم الشعر كمرآة للواقع وصراعات الذات والمجتمع، وتتحدث عن تجارب شخصية وجماعية تتجلى في تفاعلها الفني مع تحولات الأحداث من حولها.

الرباط - صدرت للشاعرة المغربية تورية لغريب، مجموعة شعرية بعنوان "في الشارع المقابل لجرحنا القديم"، عن منشورات "الراصد الوطني للنشر والقراءة" طنجة.

وتتألف المجموعة الشعرية من 102 صفحة من الحجم المتوسط، وتضم 20 قصيدة شعرية، من بينها "رقصة الحصاد"، "حكايتي مع الليل"، "عزف منفرد"، "نحن البسطاء"، "في النوم نحن الأصدق"، "زهرة لا تذبل"، و"مرآة القصيدة"، ويزين غلاف المجموعة صورة من تصميم الفنان علي مبارك.

وقامت جمعية الهدف للتنمية والثقافة بالتعاون مع مجلة الرؤية العربية للإبداع والنقد بحفل لتكريم "المرأة المبدعة"، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، والذي سيعقد يوم 2 اذار/مارس 2024، في تمام الساعة الثالثة زوالا، في فضاء الجمعيات البركة بالحي الحسني، بمشاركة مجموعة من الشاعرات المغربيات، من بينهم الشاعرة ثورية لغريب، وفي هذا السياق كان ل "ميدل إيست أونلاين" حوار مع هذه الأخيرة حول ديوانها الشعري "في الشارع المقابل لجرحنا القديم".

وفيما يلي نص الحوار:

كيف يؤثر الشعر على تصورك للواقع وعلى تفاعلك معه؟

في الشعر يجتمع ما هو عقلاني بما هو حسي، إنه زاوية أخرى للنظر إلى العالم، من خلاله يمكن التعبير عن مشاعر لا يمكن وصفها بطريقة أخرى، أعتقد أنه وسيلة فريدة للتفاعل  مع الواقع بحيث ينمي القدرة على التفكير وفهم مشاعر الذات الشاعرة

هل يعتبر الشعر في نظرك وسيلة للتغيير الاجتماعي؟

مَن منا لا تراوده تلك الأفكار عن التغيير سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي؟ والشعر كجنس أدبي يمكنه أن يكون وسيلة للتغيير الاجتماعي، من خلال تسليط الضوء واستثارة الوعي حول الجوانب التي تهم المجتمع انتصارا للإنسانية، وذلك لا يتأتّى إلا من خلال قوة النصوص التي يشتغل عليها الشاعر ليس فقط من حيث الشكل بل المضمون أيضا، الذي يتجاوز التعبير عن هذه الرغبة في التغيير، إلى إيصال صوت المستضعفين إلى أصحاب القرار، وهذا رهين باستحضار رسالة الشعر التي تناشد الحس الإنساني في الشاعر.

هل تعتبرين الشعر تجربة فنية فقط أم أن له أبعادا أخرى عميقة في تحليل الذات والمجتمع؟

الأدب عموما قصة ورواية وشعرا وسيلة فنية راقية، لكن الشكل الجمالي لهذه الأجناس الأدبية، وأولها الشعر لا بد وأنّ له ارتباطا وثيقا بتحليل الذات والمجتمع، فعندما أنظم نصا شعريا بكل ما يمكن توظيفه من محسنات لغوية تجعل منه لوحة فنية تروق القارىء، فالذاتية هنا حاضرة، إنها تعبر عن ذائقتي الشعرية ومكامن الجمال من زاويتي الخاصة، هذا من حيث الشكل.

أما من حيث المضمون، فإنني أعبّر عن مشاعر ووعي ذاتيين نابعين من القلق الوجودي، الذي يلازم المبدع عامة في كل حالاته النفسية، ومن خلال تخصص علم النفس الذي أهتم به كباحثة، كتبت مقالا عن علاقة الشعر بعلم النفس، فالشعر شكل من التداعي الحر، الذي يعكس الرغبات المكبوتة، المخاوف، والصراعات الداخلية التي تعتمل داخل النفس، وبالتالي فمن خلال الشعر يمكن التعبير عما يخالج النفس من مشاعر، موازاة مع مايؤرق الإنسان من أفكار يصعب التعبير عنها بطريقة متداولة.

ماهو دورك كشاعرة في المجتمع؟

دور الشاعر منذ القدم وحتى عصرنا الحديث عموما هو الارتقاء بالذوق، من خلال الحفاظ على اللغة بل وإغنائها، يُفترض به أن يكون سفيرا لملَكة البلاغة، التي تحمل في طياتها القيم الإنسانية التي تخدم المجتمع، خصوصا في عصرنا الحالي، حيث نلاحظ تآكلا لكل ما يرمز للجمال في صيغته الأصلية، فالشاعر ومن خلال قوّة شعره، يصير مؤرّخا وطبيبا ومعلمـا، وغيرها من الوظائف، إذ يتمّ ذلك من خلال حسّه العالي وتماهيه مع مايحدث في هذا العالم من أحداث وتغيرات، هو نفس التصور الذي أحمله عن دور الشاعرة فرغم اختلاف الجنس، يظل الأمر متشابها نسبيا إلى حدّ ما، وقد يكون نقطة قوة لدى المرأة الشاعرة التي غالبا ما تلتقط مجسّاتها الإبداعية ما قد يغيب عن الرجل الشاعر، شرط توفر النضج الفكري الذي يعدل كفة الشعر إحساسا وفكرا، ولعل ديواني "في الشارع المقابل لجرحنا القديم" يحمل تصورا واضحا عن رؤيتي للشعر، بحيث توحّدت نصوصه حول الرسالة السامية للشعر، التي تهدف للتعبير عن هواجس الذات والمجتمع.

هل ترين أن الشعر يمكن أن يكون شكلا من أشكال المقاومة أو التمرد على القيم والتوجهات السائدة في المجتمع؟

من المؤكد أنّ الشعر وليد التأمل، هذا لا يعني أنه يأخذ صبغة الهدوء والرومانسية السطحية، يمكنه أيضا أن يكون صرخة رفض، للتعبير عن فكرة ثائرة متمردة، يمكن للشعر أن يكون وسيلة أو سلاح للمقاومة والتمرد، إن استغور الشاعر جانب التمرد فيه وهذا رهين بسماته الشخصية، ضد ما يخدم الإنسانية، ولنا في التجارب الشعرية القديمة منها والحديثة نماذج لشعراء على سبيل المثال لا الحصر:

الشاعر العراقي مظفر النواب، والشاعر المصري أمل دنقل، والشاعر العراقي أحمد مطر وغيرهم كثير، فالتمرد إذن على القيم والتوجهات السائدة في المجتمع، قد يأخذ شكل تمرد سياسي أو اجتماعي مرتبط بمدى الوعي، وبالرغبة في التغيير للأفضل، أو تمرد ميتافيزيقي الذي يسائل الوجودية، إنه إيقاع قوي لا يتناسب إلا مع من لديه قناعات راسخة وقوة شعرية تمكنه من تجاوز الإيقاع الهادىء المتداول.

كيف يمكن للشعر أن يعبر عن التجارب الشخصية والجماعية للفرد؟

للشاعر إلى جانب هويته الفردية هوية جماعية، ففي الشعر الحداثي ينظر الشاعر لهويته بوصفها شخصية وجماعية من خلال ربط الأنا الشاعرة بالتجربة الحياتية، بحيث يصير تارة الذات، وتارة أخرى الآخر، أو في حالة تعارض مع شخصيات أخرى، موظّفا أنماطا من الميثولوجيا أو الأنتروبولوجيا، بحيث يتخفّف من سمة الغِنائية، لِتحلّ محلّها صفة الموضوعية التي تخدم الوعي بشكل عام.

ماهي أبرز التحديات التي تواجهينها كشاعرة في التعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية؟

الشعر تجسيد لقيم الحرية والجمال والحق، لا يمكن لقصيدة أن تتشكل وترى النور داخل زنزانة من القيود، إنه فضاء رحب لنقد الواقع، بما يعجّ به من قبح، والقضايا الاجتماعية والسياسية داخل الشعر، يمكن التعبير عنها بحرية، لأن الشعر بمثابة مرآة عاكسة، لكل ما يحدث في المجتمع، وهو ما يجعل منه أيضا وسيلة للتوثيق، إلا أن تحديات كثيرة تواجه الشاعر(ة) بسبب التعصب لإيديولوجية معينة من طرف المتلقي، الذي غالبا ما يُسقِط من حساباته أنّ الشعر وليد الحرية، وأنّ الشاعر يعبّر بما لديه من إبداع انتصارا للإنسانية، بعيدا عن أي انتماء من شأنه أن يحدّ من رحابة هذه الفضاء، والذي يتجاوز العالم الحقيقي إلى عوالم ميتافيزيقية لا سياج لها.

كيف يمكن للشعر أن يكون وسيلة للتفكير النقدي واستكشاف الحقائق العميقة؟

ميزة الشاعر الحقيقي، أنه لا يتبنى آراء الآخرين ولا يتبع القطيع، لأنه يتأمل كثيرا، ويهتم بتفاصيل كل مايقع حوله، بحساسية ووعي بالغين، لذلك فهو يسائل كل  الخاصة بعيدا عن السطحية ووفقا  لتفكير معمّق.

ماهي القصائد التي أثرت فيك شخصيا وفي نهجك الشعري؟

يقودني عشقي للشعر باستمرار، إلى تنويع قراءتي له، ومراعاة لاختلاف الثقافة الشعرية السائدة، فإنني أقرأ للشعراء العرب قديما وحديثا، وبعض الترجمات لشعراء أجانب أمثال س.ت. إليوت، أناشيد مالدورور لوتيريامون ، بول إيلوار، ماياكوفسكي، فيسوافا شيبورسكا، ولقائمة طويلة، حتى لا أقع في أَسر نموذج بعينه، أسير وراء جمالية الحس الشعري وعمق المعنى، إلى جانب أنّ إيماني بالشّعر القوي الذي يتخفف من عبء البلاغة شكلا، والبحث عن عذوبة الشعر الخالص، ممّا يجعلني أنتقي ما أقرأ دون الانصياع للأسماء الشّعرية المكرسة إعلاميا.

كيف يمكن للشعر أن يلهم التفكير الفلسفي والروحاني؟

التداخل بين الشعر والفلسفة قائم تاريخيا منذ عصر الفلسفة اليونانية، لأن لديهما موقف مماثل من الحياة، ولأن القلق الوجودي ملازم لكليهما، الفلسفة نفسها ظهرت على شكل نص شعري، رغم الاختلاف بين طبيعة وأساليب كل من الفلسفة والشعر، فهوميروس صاحب الإلياذة، كتب فلسفته بحروف الشعر، مما يعني أنّ داخل الفيلسوف يوجد شاعر، والفكر الإغريقي أيضا اتخذ من الصياغة الشعرية وسيلة للتعبير عن مضامينه، ورغم نقطة الالتقاء بين الشعر و الفلسفة في ماهو جمالي، إلا أن هناك غموض يلفّ هذه العلاقة، فالفلسفة تخاطب العقل، بينما الشعر يخاطب الوجدان والفكر أيضا، بحيث لا يمكن النّفي بأنّ الشعر يحمل بين طياته تأويلات فلسفية عميقة، تُسائل العقل والعاطفة كما أنّه لا مناص من الجزم، بأهمية الجانب الفني الذي يحاكي العوالم الحسية.