نعيم آل مسافر ينقل أوجاع العراق في 'ووترفون'

الأديب العراقي يشحن روايته بفصول من المنعطفات التي شهدها الوطن، مثل همجية تهجير آلاف العراقيين.

من منشورات الاتحاد العام للأدباء في العراق صدرت رواية "ووترفون" للأديب العراقي نعيم آل مسافر، وهي الرواية الثالثة في مسيرته الإبداعية، بعد روايتيه "كوثاريا" و"أصوات من هناك".

يختار الكاتب آلة الووترفون الموسيقية ليجعلها عنوانا لروايته، ورغم غرابة هذه الآلة عن ثقافتنا الموسيقية التقليدية، وعدم معرفة الكثيرين لها، ولكنه اتخذ منها أرضية لأحداث روايته وشخوصها وأمكنتها. هذه الآلة التي اخترعها الأميركي ريتشارد ووترز في ستينات القرن الماضي، وتتكون من قرص معدني مجوُف وتتصل به أنابيب معدنية، ولها رنين يحاكي أصوات الحيتان، كما أن لصليل أصواتها موسيقى خشونة وحادة، مما ينتج عنها تحفيز للمشاعر واستفزاز للأحاسيس، وتشويش للأعصاب أحيانا، وهذا يعتمد على طريقة عزفها التي لا يتقنها سوى القليل من المهتمين بالموسيقى، وهذا يفسّر استخدامها في أفلام الرعب، لتكثيف الإحساس بالخوف.

ومنذ السطور الأولى للرواية، فقد وضعنا الكاتب تحت نغم تلك الآلة، وبين ثنايا دوي رنينها الصوتي، وبين طبقات هوائها الذي يتفجر أحيانا، وكأنه صادرٌ من قاعات سحيقة، حيث هواجس الخشية من الفناء الذي لا بدّ منه. إنه الموت الذي يرافق بطل الرواية في كل منعطف من حياته اليومية، تلك اللحظات المعاشة تتموج بين تيارات مختلفة من وعي منه لما يحدث، أو الغرق في اللاوعي، وتتأرجح الأحداث المختلفة ما بين ما نسميه حقيقة، أو ما يمكن تصنيفه بالأخيلة.

وفي كل ذلك فقد أتقن الكاتب لعبة التناغم بين الموت والحياة، أو الفناء والبقاء. فالموت مهيمنٌ في كل لحظة، يتوزّع على الناس بشكل عسير على التفسير، فالسيارة التي فقدت السيطرة بفعل السرعة اتجهت للاجهاز على امرأة عجوز، ولكنها نجت بأعجوبة، لتدهس طفلا على دراجته، بعيدا عن خطر الاصطدام وبعيدا عن توقعات الموت. إنه التبادل العبثي بين المنطق الذي يرى بأن الموت سيصيب المرأة، ولكنه ذهب إلى النقيض، متعارضا مع قوانين الحركة.

في طائرة السفر، حيث الامتداد في كبد سماء صافية، وبدلا من متعة الهدوء والتمتع بمباهج السفر، يتراءى للسارد الموت، ويظل يتصرف بشكل غريب يثير دهشة المرأة التي تجلس في مقعدها الملاصق له، وكأنه غريب ومتوحد.

وحينما يزور مُتحف الشمع في مدينة أميركية يجد نفسه أمام لحظة متجمدة، فالوجوه الشمعية للمشاهير في عالم الفن والسياسة والأدب، توحي بحتمية الفناء والرعب، يعززه أصوات الووترفون والظلمة المتعمدة، والطفلة التي رافقته وعبّرت عن إعجابها بثبات جأشه في موقف يوحي بحالة الانشطار بين وهم المشاعر ويقينها. إنه تلوّث الرؤية في التقاط البطل للأحداث وصياغتها بشكل لا يتميز بالتسلسل، مستخدما - ضمير الأنا – في محاولته أن يستحث الموت للقدوم، كي يتخلص من عبء الانتظار له، مثل "إجراء الفحوصات عند الطبيب للتأكد من الموت"، في مفارقة طريفة، مفادها، إن الإنسان يجري الفحوصات اللازمة للتأكد من خلوها من الأمراض التي تؤدي إلى الوقاية منها أو مداواتها إن وجدت، أما ما فعله فهو نقيض ذلك، ويدل على السخرية والكوميديا السوداء، والتي وردت أمثلة عليها في الرواية في أكثر من موقع.

تحفر الذاكرة أيام الطفولة له ولصديقه غازي الذي لا يجيد قواعد اللغة العربية حينما كانا في الابتدائية، والذي أجاب المعلم حينما طلب منه إعراب جملة فيها كلمة "وطن"، فأجاب غازي بقوله بأن الواو حرف العطف وكلمة "طن" معطوفة، إنها السخرية عن الوطن الذي ظل منقسما بين العطف والمعطوف، في إطار ذاكرة لوّثها غبار الماضي. تلك الذاكرة التي تنتقل بشكل عشوائي بين مشهد وآخر، زعيم القبيلة الذي يفخر بفحولته وهو يعيش حالة موت، لأنه لا ينتمي إلى رحابة الحياة، والأم التي تداري سكرات الموت، وكأنها تقاوم عنف التيارات الجارفة التي تقتلع جذور الحياة.

ومدينة الكوت التي تنزف من القصف الأميركي، والجسر الذي ينهار فتلتحم أجساد الضحايا من العراقيين بالكونكريت وتسبح في مياه دجلة التي اكتضّت بأشلاء البشر.  مدير المكتبة "الأستاذ مخلص" يخشى على الكتب أن تقع بأيدي من لا يقدرون قيمتها، حينما بدأت الفوضى وهيجان النهب والتدمير من قبل الناس المغلوبين على أمرهم، قرر أستاذ مخلص أن ينقذ الكتاب بحملها إلى بيته أسوة بالذين يسرقون. لقد أنقذ الكتاب من أيدي الرعاع، وكأنه بذلك يخلّص الوعي والمعرفة من عَبَث الجهل في بلد هذا البلد الذي أثخنته جراح الحروب.

سدة الكوت التي افتتحها غازي بن فيصل ملك العراق أنعشت سهول الجنوب بنخلها وأشجارها ومزارعها، وأبعدت عنهم خطر الفيضانات، فأصبحت السدة رمزا للحياة، ولكن شبح الموت تسلل إليها من خلال قتل الجنود الذين مروا بسيارة مسرعة، تمزقت أجساهم بصفيح سيارتهم بسبب العارضة، كما أدرك الموت الملك وهو في عز شبابه، حيث ترصدت له الشجرة وهو في سيارته التي يحبها، هذا الملك المتنوّر والوطني، والذي وقف بوجه هيمنة الإنجليز، بيد أن "المميت" اجتث حلم العراق بقتل غازي وحرم الوطن من إمكانية خلاص.

هذا جزء مما تبحث عنه هذه الرواية، وهي في غمرة حفرياتها في الماضي، وعقد مقارنات مع الأزمنة المتوالية بشكل مركّب ومعقد ومتشابك. وقد قام الكاتب بشحن الرواية بفصول من المنعطفات التي شهدها الوطن، مثل همجية تهجير آلاف العراقيين وقد وصفتهم الرواية: "بأن شاحنات النظام قد تخلصت من حمولتها البشرية في الحدود العارية، وجردتهم مما يملكون".

كما رصد انتفاضة الأهالي على الظلم، ولكنهم أصيبوا بجنون النهب والتدمير لمؤسسات الدولة ودوائرها، معتقدين أنهم ينتقمون لأنفسهم، وذلك بعد هزيمة النظام في مغامرة غزو الكويت، هذا الغزو الذي جعل البلد مستباحا من قبل دول العالم التي أرسلت هدايا الموت إلى العراقيين.

تتوالى مشاهد الرواية ومنها لقطات لفيلم سينمائي، بدون مونتاج: الباخرة التي تغرق أثناء عبورها السدة من خلال أحد أبوابها "الهوس"، الشابة التي انتحرت في النهر لأنها وجدت في الموت أكثر رأفة من شراسة الواقع الاجتماعي الذي يحيط بها، التماثيل التي حُطمت واجتثت من منصاتها مع أنها كانت تمنح المدينة شيئا من الجمال، الإنجليز الذين جلبوا شجرة اليوكالبتوس لمحاربة البعوض، مقهى الأدباء في المدينة وطريقة النفاق والتزلف بين بعضهم البعض، والذي يعكس أزمة الثقافة التي تمخضت عن كتاب "موت على الورق"، والذي يُعَبّر عن بؤس الحالة الثقافية وموتها، بينما يُطل علينا كلكامش في بحثه عن الخلاص من الموت، ولكنه سرعان ما يقع بين مخالبه التي افترست أحلامه بالخلود.

إنها لقطات وصور للموت في مختلف أشكله وألوانه، تنهال بشدة أحيانا وبنعومة أحيانا أخرى، كما أنها تلغي حاجز الزمن من حيث التداخل في توقيت الحدث، كما تتجاذبها عدة مستويات من الوعي، حينما يتوجه السرد إلى تناول الوقائع التاريخية، وفي نفس الوقت نرى مستويات من تيارات اللاوعي، والتي تلامس الأخيلة والأحلام والتي لا تخضع لمنطق الواقع. ولم يكتف الكاتب نعيم آل مسافر بذلك بل اقتفى رسالة الغفران لأبي العلاء، وجحيم دانتي، في بحثهما عن الجحيم ووضعه في إطار التأمل الفلسفي، ولكنّه في الرواية كان في إطار البحث عمن ذهبوا إلى الفردوس من خلال المرور ببرزخ الموت، وكيف كانوا يعيشون في جنبات نعيمها، ومن خلال الأسئلة التي طرحها، وكأنها إسقاطات لبعض أدوات الحياة لترحيلها إلى ما بعد الموت ولاسيما في الجنة، من خلال الاستفسار عن وسائل المواصلات وازدحام الطرق، والتاكسي إلخ. ورغم طرافة الأسئلة، ولكنها تحمل في طيّاتها أزمة الموت السريري للحلم في وطن لا يتسع لطموح أبنائه الحقيقيين، الموت السريري لماض مضبب وإشكالي، والأمل بمستقبل فردوسي.

لقد استخدمت الرواية لغة مشفّرة في أحداثها وشخوصها، فجاءت مكتنزة بالرموز والدلالات التي تحمل تفسيراتٍ مختلفةً، وبذلك انفلتت من الالتزام بشروط السرد وفق سياقاته الزمنية ونموّه الحكائي، فليس ثمة حدث معيّن، وإنما مجموعة من الأحداث المختلفة والتي تصرخ وتئن وتتأوه بأصوات مختلفة، فهي شبيهة بالووترفون الذي يُصدر أصوات مُتفردة قادرة على إثارة الرعب والفزع، ولكن ليس عبر شاشة السينما، وإنما عبر شاشة الوطن.

هل عبرت هذه الآلة عن بعض أوجاع هذا الوطن؟

سطور الرواية قد تُجيب على هذا السؤال.