هل انحنى الرئيس الجزائري لجماجم اللصوص بدل أبطال التحرير؟

عضو مجلس الشيوخ الفرنسي كاثرين مورين ديسيلي تعرب عن أسفها لعملية الإعادة "الفاشلة، التي تمّت على نحو خبيث" برأيها، إذ أنّ 6 فقط من أصل 24 جمجمة أعادتها فرنسا خاصة بمقاتلي المقاومة الجزائرية.

باريس / واشنطن – كشف تحقيق لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تناولته الصحافة الفرنسية أنّ الجماجم التي أعادتها فرنسا للجزائر ليست كلها لأبطال مقاومة الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر، فيما لم تُقر بعد حكومتا البلدين بهذه الحقيقة حرصاً على تعزيز العلاقات التي بدأت في التحسّن مؤخراً.
وذكرت يومية "ليبراسيون" نقلا عن "نيويورك تايمز"، أن ستة فقط من الجماجم التي سلّمت للجزائر في حزيران/يونيو 2020 هي لأبطال المقاومة. ورغم ذلك تقول الحكومة الفرنسية إنّ تلك الجماجم قد أُعيرت للجزائر "لمدة خمس سنوات"، ومن الممكن استردادها في حال لم تتغير قوانين الاحتفاظ بها في فرنسا.
وكشفت أنّه من الصحيح أن من بين الرفات المستعادة توجد جماجم مقاتلين معروفين أمثال الشيخ بوزيان وشريف بوبغله، غير أن 18 جمجمة أصلها غير مؤكد حسبما نقلت "نيويورك تايمز" عن متحف الإنسان في باريس حيث تواجدت هذه الجماجم.
وتبيّن في التحقيق كذلك وجود جماجم للصوص مسجونين، ولثلاثة جنود مشاة جزائريين خدموا في الجيش الفرنسي، وفقاً لمصادر في متحف التاريخ الطبيعي في باريس.
ومع ذلك ، فقد تم الاحتفال بعودة هذه الجماجم إلى الجزائر بأبهة عظيمة عشية الاحتفال بالذكرى 58 لاستقلال الجزائر، حيث حضر الرئيس عبد المجيد تبون شخصيا للترحيب بالرفات على مدرج مطار الجزائر، وانحنى أمام النعوش في احتفال عسكري مهيب.
وأكد رئيس الجزائر حينها أنّ هذه "رفات 24 من قادة المقاومة الشعبية حرموا من حقهم الطبيعي والإنساني في الدفن منذ أكثر من 170 عاما".
قبل ذلك بثلاث سنوات، تعهد ماكرون، خلال زيارته الرسمية الأولى للجزائر، بأن تعيد فرنسا جماجم الشهداء الجزائريين، التي اعتبرها الجيش الفرنسي في القرن التاسع عشر تذكارًا للحرب واحتفظ بها حتى ذلك الحين متحف الإنسان في باريس.
بالنسبة لصحيفة نيويورك تايمز، يمكن تفسير هذه "العودة غير الكاملة" بمشكلة أوسع تتمثل غالبًا في عمليات الاسترداد "السرية والمربكة سياسياً" من فرنسا، والتي تحاول إعادة تشكيل علاقتها مع القارة الأفريقية.
لكنّ عضو مجلس الشيوخ الفرنسي كاثرين مورين ديسيلي أعربت عن أسفها لعملية الإعادة هذه "الفاشلة، التي تمّت على نحو خبيث" برأيها.
من جهته تساءل المؤرخ بنيامين ستورا بعبارات أكثر دقة: "كيف نميز بين المقاوم السياسي الواعي المناهض للاستعمار، الذي يقتل بالسلاح، وبين اللصوص المعارضين للاستعمار؟ الحدود بين الاثنين رفيعة للغاية."
كانت الصحيفة الأميركية قد نشرت تحقيقها قبل يومين بالتزامن مع تكريم الرئيس الفرنسي في احتفالات الذكرى الستين لانتهاء حرب الجزائر، للجنود الذين شاركوا فيها في قصر لزانفليد في باريس.
ويواصل الرئيس إيمانويل ماكرون، ومنذ وصوله إلى الاليزيه في عام 2017، إطلاق سلسلة من المراسم والفعاليات التي ترمي إلى "بناء ذكرى مشتركة وسلمية" حول استعمار الجزائر والحرب التي أدت إلى استقلالها عام 1962.
لكنّ التكريم الذي أقامه الثلاثاء للمُحاربين الذي شاركوا في الحرب الجزائرية هدف إلى التذكير بأن الغالبية العظمى من هؤلاء رفضت انتهاك مبادئ الجمهورية الفرنسية، بخلاف "أقلية" كانت "تنشر الرعب"، وهو ما لا يُرضي بالطبع ذاكرة الغالبية العظمى من الشعب الجزائري الذي قدّم ما يزيد عن مليون شهيد في معارك التحرير.
وكتبت الرئاسة الفرنسية في بيان "نحن نعترف بوضوح بأنه في هذه الحرب كان هناك من، بتفويض من الحكومة لكسبها بأي ثمن، وضعوا أنفسهم خارج الجمهورية. هذه الأقلية من المقاتلين نشرت الرعب وارتكبت عمليات تعذيب، تجاه وضد كل قيم جمهورية بنيت على أساس إعلان حقوق الإنسان والمواطن".
وشارك حوالي 1,42 مليون فرنسي في حرب الجزائر بين عامي 1954 و1962، من بينهم مليون مجند و300 ألف معاون وفقا لأرقام الإليزيه. وقتل فيها 23,196 جنديا بينهم أكثر من 15 ألفا في المعارك والهجمات، فيما أصيب نحو 60 ألفا.
يُذكر أنّ زيارة ماكرون إلى الجزائر في نهاية أغسطس الماضي، لم ترقَ إلى مستوى التطلعات التي عُلّقت عليها، لأنها لم تقدم إجابات حاسمة بشأن الأسئلة الأزلية بين البلدين، خاصة في ما يتعلق بملف الذاكرة، واكتفت بخطابات وتصريحات استعراضية تلاعبت بمفردات المجاملة لتجاوز عقدة الأشهر الماضية، بينما لم تقدم شيئا لتعاون حقيقي وشامل بين الطرفين، وهو ما حاولت بالمقابل رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن تقديمه قبل أيام في زيارتها للجزائر برفقة العديد من الوزراء.
وقدّم ماكرون رؤية قصر الإليزيه لمسألة التاريخ والذاكرة المشتركة، وبدل تحمل المسؤوليات السياسية والأخلاقية للحقبة الاستعمارية لبلاده للجزائر، أبدى رهانه على فئة الشباب والتعاون الفئوي تمهيدا لبناء المستقبل المنشود، بدل معالجة القضية من جذورها.
ورغم أنه كان في شهر أكتوبر من العام الماضي قد صرح بأن “الجزائر لم تكن أمة قبل استعمارها من طرف بلاده”، وأن “الرئيس تبون عالق في نظام سياسي عسكري يتاجر بالتاريخ وباستعداء فرنسا” إلا أنه لم يقدم ما يجبر خواطر الجزائريين.
واختصر الرئيس الفرنسي المرحلة في ما أسماها بـ”قصة حب” اعترضتها “مراحل مؤلمة”، واعتبر أن الحل يكمن في “المصالحة والحقيقة والتفكير في المستقبل بدل الندم”، وهي رسالة واضحة على أن قضية “الاعتراف والاعتذار” لا مكان لها في أجندة قصر الإليزيه.