ومضات نقدية عن عروض بغداد الدولي للمسرح

محمد حسين حبيب يحضر المهرجان المقام تحت شعار 'لأن المسرح يضيء الحياة' ويكتب عن عروض اختارها.

للمدة من 20 ولغاية 28أكتوبر/تشرين الاول 2022 تنافست 21 دولة أجنبية وعربية على جوائز مهرجان بغداد الدولي للمسرح، والذي أقامته دائرة السينما والمسرح – وزارة الثقافة العراقية في بغداد، وتحت شعار"لأن المسرح يضيء الحياة " .. كان لكاتب السطور حضور ومتابعة ومشاركة نقدية في المهرجان، فآختار بعض العروض ليكتب عنها ومضات نقدية وبحسب الاتي :

ومضة رقم 1

- مسرحية "طلقة الرحمة" العراق – اخراج محمد مؤيد

محمد مؤيد المجنون انغمارا بحركة الجسد، بلغة الجسد .. في عرضه المهيب هذا .. جعلنا نتيقن ان الجسد يفكر فيمنحنا معنى، ليس أي معنى .. انها المعاني المسكوت عنها والمفضوح عنها هي ذاتها .. انهم ( ٢٣ ) جسدا أنتجوا لنا ذلك العدد الكبير من معاني الألم والفجيعة العراقية وبالوثائق الجمالية، وحلقوا بنا نحو عوالم الافتراض الواقعي لكي ننغمر معهم جنونا ونذوب في محطات الوطن المذبوح .. محمد مؤيد جعلنا نتيقن ايضا بان الحركة الجسدية هي نبض الروح .. تسمرت ارواحنا وانغمرت طيلة لحظات العرض لاننا كنا جميعا كمتلقين نرقص ملفوفين بالالم والقسوة والدمار الذي أكل منا ومن الوطن الكثير الكثير ولما يزل .. انها تلك التحولات المشهدية/ السمعيبصرية المصاحبة لتلك الجمل الموسيقية والايقاعية الساحرة بالمتعة وبالجنون الابداعي.

كان افتتاحا مهيبا يليق بالمهرجان وبالمسرح العراقي لانه افتتح بهذا العرض العراقي / العالمي ( طلقة الرحمة) .. افتتاحا يليق بالعراق .

ومضة نقدية رقم 2

- مسرحية "خلاف" العراق – تاليف واخراج مهند هادي

انها سيرة حياة امرأة تدعى أمل صاغها لنا نصا وعرضا مهند هادي، أمل الوريثة الشرعية لحزب أبيها، نضال حزبي ممتد من جيفارا الى أمل يتضمن حكاية اجتماعية سياسية يتمظهر فيها صراعا بين اليمين واليسار نستنتج عنه ان جميع النظريات الحزبية - المتطرفة منها والعلمانية - تؤدي الى القتل على مبدأ من يخالفني فهو عدوي .. حكاية واقعية افترض لها المخرج بيئة غرائبية أحاطت بالفضاء من جميع جوانبه وارضه وأعلاه وفق تحولات منظرية ولونية - وان اصطبغت بالتكرارية - إلا إنها عبرت عن الأزمات والتقاطعات النفسية منها والايديولوجية التي فتحها لها الاخر / المراقب، ملفا تحقيقيا خاصا ليغلقه حيثما يشاء، بعد اثبات فكرة انه صانع الموت لانه الآمر المتحكم والمتعولم على الدوام، والباقون ضحايا .. مجرد ضحايا .

ومضة نقدية رقم 3

مسرحية "بائع متجول" تاليف ارثر ميلر واخراج المعتمد المناصير من الاردن:

مرة اخرى الحكاية الاجتماعية الواقعية لكنها هنا ارتبطت بالاقتصاد من جهة وامتزجت بالرمزية من الناحية الدرامية من جهة اخرى بحسب ما عرف بذلك كاتبها ارثر ميلر .. انها علاقة الاجيال المختلفة نوازعهم ومواقفهم من الحياة بجميع مستوياتها.. انها مرارة الابوين وآلامهما ازاء سذاجة وسخافة اولادهما حين الانحدار اللااخلاقي واللامتوقع .. ومرة أخرى ايضا ينحت المخرج المعتمد المناصر بيئة رمزية استندت على الأسرة الحديدية المتحولة الدلالات وفقا للحالة وللموقف الدرامي المراد التعبير عنه، كما سعى المخرج الى اضافة شخصيتين هما العازف والراقص ايمانا منه بتوسعة رؤيته الاخراجية وتفعيلا للمشهدية لكن النص ببعده النفسي لشخصياته ومعاناتهم ظل المهيمن الاكبر برغم جميع الاضافات او الابتكارات الاخراجية .

ومضة نقدية رقم 4

مسرحية– الجزائر، اخراج محمد شرشال  GPS

"ستكون هناك مسارح بديلة بعدد الشعر الذي في رأسي" هكذا افترض الباحث التشيلي اندريث جونثاليت.. وهذا العرض لصاحبه محمد شرشال احد هذه الاساليب البديلة والمختلفة عن المسرح التقليدي .. انه سيناريو اخراجي معني بالكتابة الاخراجية المنضبطة ورقيا فكرا ورؤية وفلسفة، قبل التعامل مع مكان العرض وسحرية عالمه.. انها اللغة المسرحية التي يمكن فهمها والتفاعل معها ببساطة وادراك من قبل جميع الجنسيات العالمية بمختلف لغاتها ولهجاتها.. لغة الجسد والحركة والصوائت السمعية والتاوهات والضحكات والغنائيات الصادرة من الاداء المتنقل وبقصدية تمسرحية عالية

انها تلك الانتقادات الساخرة التي يوجها العرض للحياة والانسانية بمختلف ازمانها وامكنتها

انه الصراع المتعدد بالوانه السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية وموقفنا منه

انها تلك الاقتناصات اللماحة وهي تحيط بنا حياتيا وتعصرنا كالليمونة ألما وقهرا واستلابا مثل : الدجل بانواعه، الفساد بانواعه، الانتظار، الاحلام، الخيانات، الاهداف، المحاباة والكذب والحيلة والغدر .. GPS ينحت في الافكار والاشكال والتقلبات والتناقضات الحياتية التي تصب في جحيمنا بسخرية، بلعبة المضحك المبكي

شكل العرض انطلاقة جديدة للمهرجان كما انطلقت يوم امس افتتاحيته الدرامية الراقصة مع عرضطلقة الرحمة

ومضة نقدية رقم 5

مسرحية "كلب الست" فلسطين – اخراج فراس ابو صباح

- أثبت هذا العرض ان المسرح فكر أولا، ومن ثم تأتي بقية الأشياء تباعا .. ببساطة منظرية وملحقات أبسط اكتنز العرض بعمق محتواه الدرامي السمعيبصري: نصا واخراجا وتمثيلا وتقنيات وحقق تواصلية عالية في التلقي ..معالجا لفكرة ( المحتل) الذي يفتعل مسوغات احتلاله كذبا وتسويفا وتعسفا وقسوة واذلالا لجهة احتلاله وناسها الفقراء.. هذا العرض لايختص بالواقع الفلسطيني حسب، بل يفرش بساطه الرمزي والدلالي على جميع البلدان العربية وتحديدا تلك البلدان التي وقعت وترزح اليوم تحت وطئة الاحتلال- العياني منه والمتخفي- والعراق احدها وبجدارة .. يستولون على خيرات بلدك الوفيرة ليطعموك منها باذلال وتجويع ..

العرض صرخة مدوية بوجه السفلة والعملاء والخونة .. وحقق تواصلية عالية عبر ايحاءاته وشفراته وعلاماته المتنوعة من السخرية والكوميديا والالم والموسيقى والغناء والرقص ليضعنا في المسرح الذي ينبغي .

ومضة نقدية رقم 6

مسرحية "الحزمة" فرنسا

  اخراج فيوليتا دوري وتاليف لي باكويت، ونسال:   مالذي يمكن ان يستحقه الفقير في نهاية فقره ؟ لان الغني قد استحق ثروته، ترى : هل يستحق الفقير فقره ؟ ام موته ؟ ام غباءه ؟ ام ماذا ؟ … بهذه الجملة الفلسفية المحكمة التي استند العرض عليها ضابطا بناء نصه الدرامي المونودرامي، بعناصره النصية والادائية والاخراجية والتقنية انضباطا على مستوى خبرة متقدمة ذائبة في آلية رصدها من اجل تقديم الفن الذي ينغمس في المسرح مع اليومي والحياتي عبر سيرة حياة رجل مليئة بالخسارات والتحولات…

العرض كان درسا بليغا في كل ما قدم لنا ..

ومضة نقدية رقم 7

مسرحية "آخر مرة" تونس – تايف واخراج وفاء طبوبي

هذا عرض مسرحي قدمت فيه المخرجة نفسها ( مخرجة كبيرة ) من خلال الاداء التمثيلي للممثلين الوحيدين على خشبة المسرح ( ممثل وممثلة )

ومضة نقدية رقم 8

عن مسرحية "المنديل" سوريا

-  من اخراج بسام حميدي : هذا عرض مسرحي رقمي بامتياز .. لانه اعتمد في كل مفرداته المنظرية السينوغرافية على استثمار التقنيات الرقمية بشكل كبير وفاعل ومتواصل .. وحقق تلاقحا فنيا ناجحا مع الممثل الاصل على الخشبة مع الخلفية والفضاء الرقمي الذي يحيط به، عبر حكاية مفترضة وسط عالم افتراضي فكرتها الرئيسة هي : ان العيش وانت بصير،  وسط عالم مزور وفاسد هي أفضل من العيش فيه وانت مبصرا .

واخيرا التعقيب النقدي الكامل عن:

مسرحية "عندما تنتهي تسقط " ايران، اخراج عبد لهادي الجرف

من عنوان العرض "عندما تنتهي تسقط" نقبض على بداهة في المعنى، فمن الطبيعي ان النهاية تعني السقوط أو السقوط يعني النهاية، لكن الأهم في هكذا جملة هو محاولة النهوض من جديد بعد هذه النهاية أو هذا السقوط، استنادا على جملة متداولة تقول: "قد يتحطم الانسان لكن من الصعب أن يهزم"، وكان العرض في نهايته يسعى فعلا لمثل هذا النهوض فعلا بالادانة وبالرفض / بعد استعراضه لكل هذه الوثائق التاريخية الجرمية بحق الانسان وانسانيته التي ينبغي .

بعد أكثر من عشرين عاما في المسرح العربي، تعرضت استثمار لغة الجسد مسرحيا الى وقوعها بين مسارين : الاول كونها ظاهرة مستوردة أنعشت جماليات الاداء الجسدي وحلقت بنا نحو عوالم ابداعية مبتكرة وساحرة، والثاني يكمن في كونها موضة ليس الا لكي يساير بها المسرحي هذا الاستثمار دون الغوص في حيثيات هذه اللغة الجسدية دراسة وتمرينا وانتاجا للمعنى الذي ينبغي توفره في مثل هذا الاستثمار .

في هذا العرض الذي أجده انه وقع في المسار الثاني، اي في مسايرته للموضة الرائجة التي هيمنت على خطاب العرض، سعيا من صانعه – كاتب السيناريو ومخرجه عبد الهادي الجرف – الى التوصل للدمج بين ماهو حواري تقليدي اولا، والاستعانة بالرقص الدرامي ثانيا، لتحقيق عوالم مسرحيته التي تسللت الينا عبر تحولات مشهدية مونتاجية متحولة شكلا ومضمونا وصولا الى نهايتها الوعظية الحوارية بعد أن أخذ الاداء الجسدي مساحته الأكبر في هذا العرض .

في البدء كان الرقص، جملة تختصر جميع التنظيرات المعرفية التاريخية التي أسست للجسد لغة واستثمارا مبتكرا في المسرح الحديث والمعاصر، نعم، قبل اللغة كانت الايماءة، كان الرقص، لدرجة ان البعض من المشتغلين ممن انغمسوا في هذه الظاهرة آمنوا بأطروحة ( أنا أرقص اذن أنا موجود ) أكثر ايمانا من الاطروحة المشهورة "أنا افكر اذن موجود" لأنهم وجدوا ان الجسد الذي يرقص يفكر هو الاخر لينتج فكرا دراميا مغايرا للفكر الدرامي المستهلك والتقليدي، استنادا على ان" لحركة هي ميزان الروح" بحسب مارتا غراهام، وتأسيسا على طروحات بينا باوش التي ترى في المسرح الراقص هو درامي في المقام الاول، لأنه يختزل كل شيء بالجسد، وترى ايضا بانه : " ليس مهما كيف يتحرك الناس لكن المهم ماالذي يحركهم ؟ ... لان الرقص طريقة مختلفة للتعبير عن الأشياء "، السؤال : هل كان عرض "عندما تنتهي تسقط" واعيا قابضا مستنفرا مؤمنا بمثل هذه الطروحات ؟ .. ومن تعريفات العرض المسرحي لايرفنج غوفمان يقول : " العرض المسرحي هو المكان الذي تستهلك فيه معظم الطاقة " .. ولكن المهم النتيجة، فهل تم استهلاك طاقة الممثلين الجسدية والمضنية حقا في هذا العرض لتنتج لنا جمالا وفكرا ؟ أم ذهبت هذه الطاقة هدرا وتشتتا للمعاني المنتظرة ؟

عبر نموذج العرض اقول، يبدو ان تجربة المسرح الاهوازي، او المسرح في الاهواز لما تزل شبابية واعدة لكي تخوض غمار المسرح الدرامي الراقص، أو انها في بدايات هذا التعامل مع هذه الظاهرة، لا الموضة، وهذا الامر يحسب للفرقة ولصانع العرض ولجميع المؤدين والممثلين الذين انغمسوا في حبهم واستعدادهم وانتمائهم بحسب ماتوفر لهم من خبرة شبابية واعدة تسعى الولوج لافاق هذا الفن الصعب المرتكز على الكروغراف لتصميم واخراج الحركة على المسرح، لكن هذا الحب وهذا الاستعداد لم يكونا كافيين ليظهروا لنا عرضا بعيدا عن السطحي والهامشي في التعبير لدرجة العمل بما هو يومي وواضح ومتداول ولايحتاج منا التأويل والاكتشاف لنصل الى الدهشة .

أحيانا يقع صانع العرض بما نسميه الوهم الاخراجي، بمعنى انه يعتقد ان كل ما فكر به سيستقبله المتلقي كما اراد، فيحدث العكس تماما، فلا يمكن والحالة هذه ان يضع المخرج كل شيء في عرضه، حتى لايتحول العرض الى ساحة لعدد من الصراعات الدرامية المركبة بين اطراف مختلفة متحولة متداخلة في مهامها وفق سيناريو حافل بعدد كبير من الملفوظات والافكار والاشياء، مثل: ( السقوط في التكرارية الادائية / صراخ / نباح / لهجة شعبية / لغة فصيحة / ملفوظ اجنبي / هاي هتلر / بتر كصايب / سيرة حياة امرأة خلف القضبان / شلع قلع كلهم حرامية / التراب / الرشوة / الهجرة / جنود / الوطن / العفطه / اريد امي / عيونها السود / الدود / مذكرات جندي حرب / اغتيال / السلام / تساؤلات / ادانة / وعظيات / لحظات اظلام متكررة) .. كل ذلك وغيره يجعلنا نحاول الجمع بين هذه التشكيلات السمعيبصرية المنظرية والادائية للقبض على الرابط الجامع المانع بينها، الذي تصب فيه الوحدة الموضوعية لفكر العرض وفلسفته .. وحتى لانقع في "خلطة" من المشهديات الفاقدة لمسوغاتها الدرامية، خلطة من الحوار والحركة والتشكيل الادائي والضوئي والموسيقي دونما ماسك او دفة راكزة هي التي تقود هذه السفينة المنظرية المتلاحقة والمتراتبة في تسلسل جزئياتها .

ليضعنا العرض في النهاية في منطقة الوعظ والخطابيات والتساؤلات، نعم ان العرض أدان الجرائم والعنف والقسوة بحق بني البشر وسعى لايصال رسالته الواضحة كما نوهنا لكننا لم نكن ننتظر من العرض ان يعطينا تعريفا او درسا لمعنى "الله" سبحانه وتعالى واين يمكن ان يوجد؟ وان الله هو الحب وهو السلام، لكي نعود الى البداهة مرة اخرى مثلما ابتدأت في عنوان العرض.