بورصة الأوراق المالية وبنيات السرد الروائي في رواية 'شعيب'

خالد جودة أحمد
جانب إيماني في السرد

عندما تخوض الرواية العربية مجالًا معرفيًا جديدًا، فإنها تعد إضافة نوعية لعالم السرد وقدرته علي تقديم هذه المجالات الجديدة، فإذا كانت جيدة في التقنيات السردية، فإنها تعد من الروايات النادرة التي تحدث عنها الناقد والروائي والفليسوف المغربي بن سالم حميش بقوله: "لا يغرنك زخم المنتج، وما تقذف به المطابع في الأسواق، لأن الرواية الجيدة نادرة، الروايات الواعدة خلال سنة كاملة يمكن أن تعد علي رءوس الأصابع".

وتبعث رواية "شعيب" للأديب والاقتصادي د. مدحت نافع، إضاءات حول مجموعة من القضايا الأدبية والروائية والموضوعية المهمة، فنجد فكرة "التغذية الثقافية" بالرواية العربية المعاصرة، والكشف عن سرطان "الفساد" وتشعبه مع إطلالة سياسية، واللقاء الحضاري مع ثقافات أخرى، ومذاق الإيمان، وفكرة "التوبة" والتطهير في واقعية روائية تتماس مع قضية التعاطف مع الإنسان وذلك جميعه في ثوب من التفاصيل الموحية وبنيات السرد الجيدة القائمة علي الخطية الزمنية في أغلبها رغم استعمال آلة الزمن السردية في مفتتح الرواية، والمزج بين الوقفات الوصفية للأماكن وتقديم السمات المادية والنفسية للشخصيات الروائية، والحوار وتقنية "المناجاة"، "التماثل السردي"، مع وجود رواي عليم "مراقب عام"، يحمل "كاميرا" يجول بها في الرحاب الروائي، خاصة في المكان، راصدًا "الحبكة" علي تعاقب شخصيات الرواية الرئيسة، والأمر علي تفصيل:

بورصة الأوراق المالية ومؤشرها خاصة، يطرق أسماع الناس عبر وسائط الإعلام بوطننا العربي، فتثير لدى القطاع العريض من الجمهور غموضًا وتساؤلًا عن كنهها، وماذا تعني، وما فائدتها، مما دفع رجال عالم البورصة في مختلف مواقعهم إلي الترحيب والترويج لمفهوم "ثقافة البورصة"، وضرورة التعريف بها وبمهماتها، والدور الذي تمنحه للإقتصاد الوطني، خاصة وأن الحديث عن البورصة انتشر بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين، نتيجة سياسات الخصخصة ودور البورصة فيها، والأكثر التغييرات السياسية والاجتماعية، لدرجة أن الكاتب هشام عبدالعزيز" في كتابه "موسوعة ثورة يناير" - الجزء الأول الذي لم يصدر له الجزء الثاني علي حد علمي- قدم مفردة البورصة ضمن أكثر المفردات الثقافية التي وجدت رواجًا لدي العالم العربي بنشوب ثورات الربيع العربي.

إن اختيار الروائي لهذه المجال المهم يضعه مباشرة أمام سؤال "الأدب التعليمي"، وأرى أن فكرة تغذية الرواية المعاصرة بمعارف ومعلومات أصبح أمرًا مهمًا، لارتفاع مقروئية الروايات، مما يساهم في التثقيف العام، شرطًا ألا يغلب ذلك الأداء الفني، بل إن هذا الرفد بالمعارف يقدم للرواية الدعم لأداء رسالتها وتحقيق قصدية الروائي.

من الصحيح أنه وردت إشارات عن بورصة الأوراق المالية في عدد من الأعمال السردية، لم أصل منها إلا للنذر اليسير (مثل رواية "آدم الجديد" للروائي "ثروت أباظة"، ورواية "المستحيل" للدكتور "مصطفي محمود")، لكنها جميعها علي حد إحاطتي كانت هامشية، ولم تكن تشكل نسيجًا روائيًا مستقلًا لتلك العوالم الخصبة كشأن الرواية بين أيدينا، رغم ما يحتويه عالم البورصة من مجال نفسي خصب، ودرامية – حيث الدراما هي تعارض الإرادات - يجسدها تجاذب الأموال، ومخاوف الهبوط وأفراح الصعود، وما يرتبط به من فوران المشاعر الإنسانية وعراكها، بما شكل مجالًا إبداعيًا أثار إعجاب الأديب الإقتصادي.

لذلك تعددت مستويات القراءة في الرواية بين مستوي القارئ العام، الذي يتعرف علي عالم البورصة باعتباره الإطار العام الحاكم للنسيج السردي، وخلفية الصراع الناشب في سبيل مكافحة الفساد، كما أن هذا العالم باعثًا علي التشويق الروائي لجدته وغرابته علي أمثال هذا القارئ، والمستوي الآخر للقارئ المتخصص في عالم البورصة، حيث تزيد متعة لإحاطتة بتلك العوالم، وتقدم الرواية مفاهيم تعريفية ببعض قضايا هذا العالم الجديد في الرواية، مثال: مخالفات سوق المال كتعاملات الداخليين "أعضاء مجلس الإدارة" بالتداول علي أسهم الشركة التي يديرونها في البورصة، مع وجود معلومات لهم ليست متاحة لسائر المتعاملين، خلال فترة الحظر القانونية (ص 30 الرواية)، ومخالفة عدم اتباع قواعد الحظر القانونية لبيع قدامي المساهمين والذين حصلوا على الأسهم المباعة سابقًا بقيمة زهيدة، وهذا البيع يضر بصغار المساهمين علي تفصيل (ص 61 الرواية).

ونلاحظ – بطبيعة الحال المعرفي - استعمال الراوي الأقواس للشرح والتوضيح لهذه الجوانب الفنية، كما قدم إلماحا عن المحكمة الاقتصادية ودورها في سوق المال (ص 34، ص 159)، ومهام الرقابة المالية في رقابة سلامة المعاملات ومن أدوات ذلك متابعة الأخبار والتقارير.

تقول الرواية: "فرع من أصل عمله اليومي الذي يرصد من خلاله الأخبار والشائعات المؤثرة على أسعار الأوراق المالية في السوق". والحظر علي العاملين في السوق بالبيع أو الشراء (ص 69) وتحايل بعض ضعاف النفوس على ذلك، وفكرة عن أنواع الوسطاء في سوق المال ومنهم "منفذي البلاط" (ص 70 وص 159 الرواية)، وفكرة عن التكويد بالبورصة (ص 128 الرواية)، ومخالفة "تأجير الأكواد بثمن" (ص 155 الرواية)، ومخالفة توقيع أوامر البيع والشراء علي بياض "توظيف أموال مستتر" (ص 157 الرواية)، ونبذة عن نشأة البورصة المصرية (ص 160 الرواية)، وعالم السمسرة وصلته بالعملاء (ص 161 الرواية)، وشبكات المصالح والفساد الموازية ذات الحجم الصغير (ص 162 الرواية).

إن اختيار الروائي أن يطرق باب هذا الموضوع المهم من خلال أكثر أبوابه أهمية وضرورة، ممثلة في تقديم باب "مخالفات سوق المال"، وما يرتبط بها من شبكة الفاسدين والمتعاملين في السوق المغرضين والمتآمرين في البورصة، وهذا الأمر تشتد أهميته في الأسواق الناشئة محدودة الكفاءة، حيث يكثر التلاعب باستعمال قلة خبرة السوق بهذه الأساليب، ووضحها الراوي العليم: "كان لشعيب قناعة بان البورصة مرتع الشيطان لأنها سوق، والسوق مبيض الشيطان ومفرخه كما قال سلمان الفارسي".

ولم يقتصر الأمر وفقط على جوانب معرفية عن سوق المال، بل اشتملت الرواية في إطار من التفاصيل حول أمور في الصحة والحياة الأسرية والتربوية خاصة، تقدم المفيد للقارئ، وترسم طريقًا للسعادة:

- فنجد نظرية المشاة، فشعيب "لديه نظرية مفادها أن المشاة وحدهم هم الأقدر على حفظ الأماكن واختزان تفاصيلها في الذاكرة، وتلك هي خلاصة ما يرجوه المرء من ترحاله". كما أن المشي فرصه له لتصفية أفكاره كما جاء بصفحة رقم (218) من الرواية، وحرمان الشوارع المصرية من هذه الرياضة لخلوها من الأرصفة (ص 16).

- انتقاد أمور تعليمية عامة وتربوية في رحاب الأسرة، مثال الإلماح إلى التصحر الجمالي، فكتاب النحو الدراسي يفتقر إلى الجمال "كان في يدها كتاب أخضر قبيح أطبقت دفتيه بعنف"، بل وإلماح سياسي بارع حول الدعاية السياسية المضللة، عندما يقول "مروان" الموظف برئاسة "شعيب": "(الكتاب الأخضر) أفسد عقلك"، ونقض سياسة التعليم الخاص والمجاني اسما جميعًا (ص 150 الرواية)، والأسلوب التربوي في رعاية الأولاد بالأسرة: "وبأسلوب احترفه هو ومريم في تشفير الأحاديث التي يقصدان حجبها عن الطفلين"، وذكاء "مريم" الاجتماعي بصنع صداقات سريعة مع "أي إمرأة جميلة في دائرة حياة زوجها لوضعها تحت الرقابة وفرض سياج الإلتزام الأدبي علي تلك المراة"، وتقديم روائي لأزمة منتصف العمر من الوجهة النفسية وسبيل الخروج منها (ص 96 وص 102 وص 120 الرواية)، ومن فطنة "مريم" عدم الشكوي "نفي كفران العشير" (ص 149 الرواية)، وملمح طريف لرعاية "كريمة" عادات زوجها الأكول "مروان" حيث "أن دقيقة تأخير للطعام تعني خناقة محتملة جدًا"، فتعلن الطوارئ قبل موعد رجوعه بفترة كافية.

- كما نجد نظريات في الذكاء الاجتماعي، وتفسير سلوكيات اجتماعية، منها نقض "النميمة" (ص 73) في مفتتح الفصل المعنون (أكل الميتة)، ومفارقة هائلة في السلوك "يصلي الفجر في مقعده بعد أن انفض مجلس الحشيش"، وفكرة "تسويق الذات" بإجادة فن الكلام وحسن تقديم أو بيع النفس للآخرين في نمط من الشخصيات مثلها "مهران" (ص 95 الرواية).

- كما قدمت الرواية الثرية بالتفاصيل والإيهام الواقعي والبراعة اللغوية، تأملات حول اللقاء الحضاري بين الثقافتين الشرقية والغربية، والجمال البيئي في الغرب، ورعاية الإنسان هناك، بل ورعاية المعني في البناء المعماري (حديث مقارنة علو البناء حول الكعبة المشرفة وعدم بناء ناطحات سحاب حول مبني الكونجرس كما ورد ص 15 الرواية).

يشير الروائي في منشوره عن الرواية بموقع "فيسبوك": "شعيب هو بطل الرواية وسميّه في أنبياء الله – عليهم الصلاة والسلام - كان أشهر من واجه فساداً ذَا طبيعة مالية"، وهذا الأمر يشير إلي التناص المعنوي مع النص الشريف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (سورة الأعراف، الآية رقم 85)، باختيار الاسم الدال، ولشريكة عمره "مريم" دال الطهر والغفران، والإشباع اللغوي الرصين يمتد مع التناص مع عدد من النصوص الشريفة، "فأسرها شعيب في نفسه ولم يبدها له"، "لكل منهم دنيا يصيبها في غربته"، وهكذا إلى عشرات الشواهد التي صكت سمة أسلوبية مستقرة في اللغة الأثيرة لدى الأديب، كما تمنح دال لغة الحوار الفصحي، والتي ترقي بذائقة القراء، وفي ذات الوقت تقدم الشخصيات بخصائصها الثقافية وهي تعمل في النسيج الروائي (الحدث = الشخصية وهي تعمل).

وحضور جانب إيماني في السرد، فلحظة السرد الأولي تنطلق من (مكة)، والتي لها الحضور المعنوي الذي يؤكد خاتمة الرواية في التطهر من إدران الفساد، فالرواية تتشكل من عدد 33 عنوانًا دون تسميتها بالفصول أو إدراج الفهرس الخاص بها، وأولي العناوين "مكة" حيث تنطلق قاطرة السرد من وقفة وصفية لغرفة صغيرة بأحد الفنادق المطلة علي أحد شوارع مكه المؤدية إلى باب الفتح بالحرم المكي، حيث يؤدي بطل الأحداث الروائية الرئيس "شعيب" مناسك الحج، والراوي القائم بالسرد والوصف من نوعية الراوي العليم المحيط بأجواء الرواية المهيمن علي مجتمع قصته بضمير الغائب، وهو ما يسمي في عالم السرد بالرؤية السردية الخارجية أو الرؤية من الخلف، ومزج الروائي مباشرة بين هذا الراوي وتقنية الحوار الداخلي للشخصية أو ما يسمي "المونولوج" أو بالتعبير السردي العربي "المناجاة"، والروائي يفتح لشخصيات الحدث الروائي التعبير عن خواطرها الخاصة، من خلال المناجاة التي تأتي مؤطرة بمؤشرات لفظية (هكذا حدثته نفسه / بينما هو غارق في تأملاته / جال بخاطر شعيب / وأخذ يحدث نفسه / ... إلى آخره)، مثال خواطر "شعيب" عن الشظية التي أصابت قدمه قبل سفره للحج، وسببت له ألمًا لدى أدائه المناسك، يقول: "هل الإنسان ضعيف تافه إلى هذا الحد؟! ترى هل قفزت تلك الشظية إلى عقبه عمدًا كي تقوده مرتحلا إلى البلد الحرام؟! وهل تدرك الشظية وتهفو وترتحل كما يفعل البشر؟! ... سبحان الله! هكذا حدثته نفسه"، ومثال آخر من خاطرة إيمانية قيمة: "ما بال مكة تهفو إليها القلوب وتقر بها عيون المقيمين؟ وكيف لهذا البلد القفر أن يعظم أثره في قلب شعيب عن جنان الله التي ارتادها شمالًا وجنوبًا بحكم عمله وكثرة أسفاره؟!، وبينما هو غارق في تأملاته ...".

إن تلك المؤشرات تساهم في الاستفادة من مزج رؤية الراوي العليم، وإتاحة الفرصة أمام شخصيات الرواية للبوح والإفضاء بمكنونها في الفضاء الروائي، وهذه التقنية تعددت في مواقف كثر في الرواية، ومزجت بالوقفات الوصفية، والحوار الدائر رحاه بين أقطاب الرواية لتمثيل وجهات النظر، والتشغيل على الحبكة الروائية، والتصعيد نحو الحدث الروائي الرئيس وفروعه في إضاءات منوعة حول قضية الفساد وآثارها في المجتمع المصري.

كما استعمل الروائي تقنية سردية أخرى قائمة على السماح بالسارد الذاتي "ضمير المتكلم"، بالوجود في رحاب السارد العليم، وهي تقنية "الرسالة"، وإن جاءت بشكل ملف صوتي أرسله "علاء مهران" إلى "شعيب" بواسطة "وجدان"، وشملت الرسالة فصلًا روائيًا بعنوان "رسالة علاء مهران".

واستعمل الروائي تقنية الاسترجاع أو ما أسميه آلة الزمن السردية، بمعني أن لحظة السرد الحاضرة يسبقها فجوة زمنية يبدأ الراوي في الارتداد إليها وإزاحة الأستار عن غوامضها، وهذا من بواعث التشويق وجذب القارئ لمتابعة القراءة، يقول: "اتصل حاضره بجلسة له على المحيط الأطلسي بمدينة سان دييجو بولاية كاليفورنيا الأميركية التي زارها منذ نحو عامين، والتي انطلقت منها شرارة كل المصائب التي أحدقت به وضيقت عليه حياته منذ ذلك الحين"، إنها "قصة النتيجة" تبدأ من خاتمة قريبة في الأحداث، ثم يبدأ في الكشف عنها، ويتحرك الراوي على خط الزمن ذهابًا وإيابًا، محققًا الزمن الحداثي في الرواية او الإنزياح عن الزمن الخطي، ولتفسير ذلك نذكر أن النظام المعياري في الزمن أن يتقدم بإطراد ويرتحل من اللحظة الحاضرة إلى اللحظة القادمة وهكذا.

وفي الرواية نجد انزياحًا عن هذا النظام الخطي، فالراوي ينطلق من اللحظة السردية في رحلة ارتداد إلي الماضي (قبل نحو عامين) بتبويب في الرواية معنون "لقاء غريب"، ثم يعود مرة أخرى في التبويب الثالث "تأملات في مكة"، إلى لحظته الحاضرة، ثم ينطلق في رحلة استرجاع طويلة تستغرق غالبية الرواية حتي التبويب رقم (28) المعنون "لبيك اللهم لبيك"، ثم ينطلق قطار السرد من اللحظة الحاضرة للأمام حتي ينسج خاتمة الرواية، والحقيقة أن رحلة الارتداد الثانية طالت لدرجة تباعدت من ذهن القارئ لحظة الإنطلاقة الأولى أو الثانية القريبة منها أيضًا، مما يجعلني أقول إنها رواية خطية الزمن في أغلبها واستعمال الراوي انزياح الزمن لبواعث التشويق، وتحقيقًا متفوقًا لمغزى الرواية بفكرة "التطهر من أدران الفساد"، باعتبارها حلًا من خارج الصندوق لمعضلة الفساد.

واستعمل الروائي تقنية سردية جيدة تمثلت فيما يعرف بالتماثل السردي في بناء المشهد، فبينما هو في لقاء الغريب في مفتتح الرواية يري الزحام وهو يبتلع دراجة الرجل الذي التقاه عابرًا، "فإذا به يلمح معطفًا خفيفًا يولد من رحم الزحام ..."، فالزحام ابتلع شخصية عابرة ماديًا، وهو ذاته الرحم التي تولد منها شخصية "علاء مهران" وهو شخصية رئيسة بالرواية، والتماثل يقوم علي تجسيم حركة مادية توازيها حركة أخرى سردية نفسية على مستوي الأحداث، ففي رحاب حبكة الرواية القائمة على التشويق نجد الأزمة في الرواية تنطلق في عبارات تمهد للتصعيد الروائي والاستباق "الإعلان" السردي، والاستباق يقوم بطرح الروائي عبارات تمثل إعلانًا للقادم الروائي، فيقول الروائي للقارئ انتظر معي سيحدث أمرًا مفاجئًا، وهذا من بواعث التشويق في الرواية تأتي في شكل مسلسلات وفي خواتيم كل فصل روائي، مثال التماثل "النهار الذي بدأ لطيفًا هادئًا، أعقبه ليل موحش مضطرب"، هذه حركة مادية أتت عقب محاولة "مهران" رشاء "شعيب" وهو في "أميركا"، وغضب "شعيب" وهو يتجهز للعودة إلى وطنه، لكنه على مستوى الحدث الروائي سيمر ليل موحش فعلًا في محنة تجذب "شعيب" في رحاها، وأكد هذا الاستباق بنذر هذا الليل: "رن جرس المحمول وكان الاتصال هذه المرة من زوجته مريم التي قبل أن تقول أي شيء أجهشت بالبكاء!".

وحدوتة الرواية (والتي تم التشغيل عليها ببنيات السرد الجيدة لتثمر لنا الرواية الفنية)، تشير إلى "شعيب" الشخصية النبيلة، التي تشغل منصبًا مهمًا في منظومة سوق المال في جانبها الرقابي، والتي تقع في أحبولة صراع البراءة والفساد، وسطوة أصحاب المال والنفوذ، وتجاذبات الإرادات في تشويق سردي بغوامض وأحداث غير متوقعة، لتشرق الرواية في الختام عن كافة خيوطها وأحداثياتها السردية، في لغة متزنة جزلة تنم عن معرفة وثيقة باللغة العربية والإمكانيات الثرية في رحابها، مع خاصية مهمة وهي أنه من المعروف أن الشخصية المثالية تستدعي فكرة النقاء وظلالها الرومانسية، مما يضعف الصلة بالواقع، والتي أرى أن الرواية لم تنسَق وراء هذا الداعي، بل قدمت واقعية علي مستوى السمات للشخصيات الروائية، فيقدم الشخصية الروائية التي تسمى "المستديرة"، أي الشخصية التي تتطور وتنمو في ظلال الحدث الروائي، بمعني أن الحياة في حقيقتها ليست أحادية اللون (أبيض أو أسود) بل هناك ظلال رمادية كثيفة بين اللونين، ففكرة التطهر تطرح هذا الشأن بقوة في الخاتمة، وشخصية "شعيب" نفسها تعرضت لهذا الضعف الإنساني، وقيل أن أعظم الأدب الذي يتعاطف مع الإنسان في لحظات ضعفه، ولم يعد البطل في القصة المعاصرة بطلًا أسطوريًا، ووردت في النص الروائي عبارات ذكية تمثل هذا المعني، ففي حوار رجل الأعمال "مروان" مع "شعيب" يقول: "صحيح .. لكن حتي العصابة يوجد أشرار وأناس أقل شرًا"، وكأنه يقول لنا روائيًا: "حنانيك فإن بعض الشر أهون من بعض"، فكما أن الجنة درجات، فالجحيم دركات.

إن حركة الرواية عبر قطبيها (شعيب / مهران) تندفق لتلتقي في نقطة تلاقي في الخاتمة، تمثل فكرة واقعية عن طبيعة الإنسان التي تحمل الخير والشر معًا، والرواية متقنة بالصفة العلمية حملت دوال الاسماء للشخصيات الروائية فكرة (الطهر / التلوث)، ووجود تصوير دقيق لنوازع نفسية قاسية مع تشويق سردي، مع تقديم عدد ثمانية من الشخصيات الرئيسة والشخصيات الثانوية، مع بيان في وقفات وصفية وافرة لسماتها النفسية والأخلاقية، حتى علي مستوي المفردات هناك كشف لهذه السمات، ونكتفي بمثال له نظائر بطول الرواية وعرضها: "ما إن استقرت عينا مريم على شعيب حتى اندفعت نحوه خارقة الصفوف بجسدها النحيل، ملقية نفسها بين ساعدين شددين"، والساعد الشديد دال سمة نفسية في شخصية شعيب الذي يتجه دائمًا لمواجهة أقداره، والنضال ضد الفساد، يتضامن هذا جميعه مع كون النسيج السردي مشبعًا بالحوار الناجز معرفيًا ولخدمة "الحبكة الروائية".

والراوي العليم يقدم خلاصات حياتية، وأفكارا حول الإدارة والفساد، وجوانب معرفية في سوق المال وفي الأسرة وفي السلوك جميعًا، ويمضي محللًا شارحًا معقبًا، يقول: "وللفساد جذور تضرب في أرض الإهمال، وأخرى تضرب في أرض السفه، وثالثة تضرب في أرض الغباء"، وبواعث هذا الفساد وآثاره ومنها الفوضي والعشوائية والغضب وأخلاق الزحام (ص 133 الرواية)، ويستمر في التحليل حول فن إدارة المخاطر، والفطن للكوارث "من عورات الواقع المرير" والتهيؤ لملاقتها، وهناك كنز من هذه التحليلات الإدارية والسلوكية والنفسية.

يقول عن النساء "القلق مكون أساس في وجدان النساء، وعادة ما يكون باعثه شيئًا غريبًا لا يترك في نفس الرجل ذات الأثر"، ومثال هذه التأمل من البوح الحكيم: "كيف يلام الغريق إذا تمسك بقارب لا يملكه"، وحديث شائق عن الذكريات وأثرها (ص 149 الرواية)، ولمحة اجتماعية عن أسباب فشل أسر مصرية مؤخرًا (عدم القدرة علي التفاهم والتوصل إلى نقاط مشتركة والصبر على اختبارات الحياة اليومية"، ونصيحة عظيمة لوجه الله حول مظنة الإصلاح والتي تجلب ضررًا عظيمًا (ص 187 الرواية)، ونظرية الفلتر في عالم الفساد (ص 188 الرواية)، وغيرها كثير تستدعي التأمل والاعجاب.

يبقى لنا بيان بعض المآخذ من باب "انه لا يكتب كاتب يومًا إلا وقال: لو زيد كذا، لو تغير كذا، ....)، ومن ذلك، أن خطية الزمن بداية من التبويب الرابع حتي ما قبل نهاية الرواية بعدد يسير من التبويبات، أضعف صلة القارئ بنقطة الإنطلاق السردية الأولي أو مكان رحلة الارتداد في الزمن، كما أن بعض أحداث الرواية آراها تنويعًا طارئًا على خط الرواية الرئيس، وتبرير وجوده شغف الروائي بالكشف عن مظاهر متعددة من الفساد السياسي (رحلة الاشتراك في الإنتخابات) والسلوكي أيضًا، وشمل هذا التبويبات المعنونة (قوص / حوار مع العمدة / داود السمج)، مما مثل تعريجًا في الخط الروائي كان يستدعي إشباعًا أكبر في أعمال روائية كاملة، كما وردت إخطاء يسيرة للغاية منها مفردة (حدس) وردت (حدث) صفحة 189 الرواية، بينما وردت صحيحة ص 208، و ص 208 في الرواية.

وبعد يظل لهذه الرواية الماتعة حضور فريد في عالم سوق المال، وتقنيات الرواية جميعًا.