صالح أحمد (كناعنة) يؤكد أن الشعر لا يمنح بريقه لكل مريد

رفيق الموهبة الصادقة

صالح يوسف أحمد من عائلة كناعنة، يقطن في مدينة عرابة البطوف - قضاء عكا، في فلسطين المحتلة عام 1948. وعى على الدنيا ليجد نفسه فرداً من أسرة عريقة، بدأ مجدها يخبو شيئاً فشيئاً في ظل المتغيرات السياسية والاجتماعية، وليجد والده الراحل، يتحدى واقعه ليكون أول رجل يخرج للعمل في أسرتهم التي كانت يوماً ما ذات أمجاد، ليعيل أسرته ذات العشرة نفوس.

وصالح أحمد هو الثاني بين أبنائه العشرة، سبعة أخوة وثلاث أخوات، إذ لم تعد الأرض تفي باحتياجات الجميع في ظل المضايقات والتضييقيات على الإنتاج الزراعي الذي حرصت دولة إسرائيل على إبقائه في دائرة زراعة البعل (بدون ري) ما أضعف المحصول وقلل من جودته، وفقد وزنه مقارنة مع النتاج الزراعي الحديث.

قضى صالح أحمد طفولته في عرابة القرية الزراعية التي باتت تنمو بسرعة، لتتحول إلى مدينة بعد سنوات، وللحق يقول: إنها لم تمتلك مقومات المدينة الحقيقية حتى الآن فالبنى التحتية فيها ما زالت لصيقة بمعالم القرية أكثر.

تعلم المرحلة الابتدائية في مدارسها (عرابة القرية)، ثم انتقل إلى مدينة عكا ليدرس الثانوية ومنها إلى مدينة حيفا حيث تخرج من كلية إعداد المعلمين في موضوع التربية الخاصة، وبعد ذلك بسنوات، بدأ يشعر بشوق شديد لدراسة اللغة العربية، فالتحق بجامعة تل أبيب، فنال اللقب الأول في اللغة العربية، ودرس للقب الثاني، ولكنه لم يكمل بسبب ظروف خاصة وقاسية.

في عكا تفتح وعيه على معنى المدينة، فعكا مدينة التاريخ والعراقة، إلى جانب الانفتاح على الحياة بكل زخمها وتطوراتها، عكا العربية الزاخرة بالأمجاد والحضارات، الراقية بأهلها، الذين تمسكوا بها وبمعالمها وما زالوا، وما زالت عكا بفضل صمودهم تحافظ على وجهها التاريخي والحضاري إلى يومنا هذا، رغم إقامة عكا اليهودية الحديثة بعماراتها وأبنيتها وشوارعها الحديثة، والتي جعلت منها مدينة تنبض بالحياة، خاصة وأن أهل عكا العرب استطاعوا أن يمتلكوا قسماً كبيراً من أبنيتها الحديثة فأصبحوا جزءاً من نبضها الراقي المتفتح على الحياة.

كما تفتح وعيه على معنى العصامية، حيث سكن في غرفة من غرف المسجد الكبير (مسجد أحمد باشا الجزار) وبدأ يعمل كل يوم أحد (يوم العطلة الأسبوعية في مدرسته \"تيرسنطة\" التبشيرية) في أعمال البناء ليساعد في مصروفه، ويخفف بعض الحمل عن والده.

كما بدأ يتفتح وعيه على القراءة، فكان يدخر من مصروفه القليل ليشتري كتاباً كل أسبوع للقراءة، إضافة إلى ما كان يستعير من مكتبة المدرسة، وقد كان تعطشه للقراءة يدفعه ليقرأ أي كتاب تصل إليه يده، ولكن شغفه بقراءة القصص والروايات والشعر الكلاسيكي كان الأقوى. وهكذا بدأ يتفتح وعيه على الثقافة والحضارة، ومعها وعيه وفهمه للحياة، فكان شبابه، شباباً هادئاً، موزعاً بين الدراسة والعمل، فلم يكن يقبل أن يمر عليه يوم عطلة بلا عمل.

حرص صالح أحمد أن يكون الزوج الطيب الحنون، وأن يدفع زوجته لتكمل دراستها، ولتصبح مربية في روضة الأطفال. كما حرص على توجيه أبنائه وبناته للعلم والثقافة، فحرص أن تكون مكتبته البيتية، شاملة، وزاخرة بقصص الأطفال، والناشئة الملائمة لكل الأجيال.

• وضع اللبنة الأولى لتكوينه الأدبي في وقت مبكر:

منذ طفولتي المبكرة كنت مولعاً بالقراءة والكتابة، فقد كنت أمشي وأنا أرفع إصبعي الشاهد وأكتب على الهواء كل كلمة تعلمتها في المدرسة، وأنا أتهجاها حرفاً، حرفاً بصوت مسموع، وأحياناً أنغّمها بصفير من شفتي. كان الناس يضحكون وهم يرونني، وأسمع بعضهم يهمس، هذا ولد فيه مس من الجنون! وكان أبي يسمع هذا منهم فيعلق على كلامهم بالقول: بل ولدي عبقري وسترون. رحم الله والدي، لقد آمن بذكائي منذ صغري، ولكنه لم يرد لي أن أكون كاتباً، كان يحلم أن يراني محامياً.

في المرحلة الابتدائية بدأت أكتب خربشاتي، وكان معلم اللغة العربية يقول لي: ستكون كاتبًاً وشاعرًاً يوماً ما يا ولد، فدفاتري الأولى كانت ملأى بالخربشات التي كنت أسميها شعراً، ولم تكن سوى خيالات وصور حسية من واقع حياتي البريئة. فقد كنت أعود من المدرسة لأرعى بضع شياه (لم يزد عددها عن العشرة يوماً) تعيننا على العيش، وكنت أدوِّن انطباعاتي عن الطبيعة وتفتحها أمامي يوماً بعد يوم، كما كنت أدون ما أسمعه من أبي وأمي وجدي عن وضع الأسرة الذي انقلب رأساً على عقب من أسرة عريقة ثرية، وجدت لها سطوتها وهيبتها ونفوذها إلى أسرة مكافحة في سبيل لقمة العيش.

في المرحلة الثانوية (التوجيهي) بدأت أكتب شعراً حقيقياً، وكان مدرس اللغة العربية ينقح لي كتاباتي ويشجعني، وبدأت أنشر بواكير قصائدي في الصحف اليومية.

لا يؤمن بما يسمى بالوحي الشعري، ومن تجربته خاصة يقول: إن الشاعر وهبه الله حسًاً مرهفًاً، ووعيًاً محلقًاً، وروحاً شفافة، فهو يختزن ما يدركه حسًا ووعيًا، ويذوته فيعيشه روحًا، ليتولد عنه طاقة فكرية تتفجر إبداعًا ً تعبيريًاً لا يقدر عليه سواه ممن لم يهبهم الله ما وهبه من طاقات الحس والوعي، والقدرة على تذويت التجارب الحسية والحياتية، والتمازج معها وبها وجدانيًا لتتولد فكرًاً منغمًاً ومموسقًاً بحسب نبض حسه ورؤى وعيه وخياله معاً. لذا لا إبداع بلا تأمل، واختزان تجريبي، واستنطاق لمكامن الشعور، الأمر الذي يتنافى تماماً مع ما يسمى (الوحي الشعري).

وأرقى حالات التعبير عنده هي حالات الصفاء الوجداني، حيث تمتلك الشاعر حالة من التجلي الشعوري والوجداني، فيجد الكلمات تنسكب من وعيه بكل عفوية وارتياح، وكأنما هي تكتبه أكثر مما يكتبها!

أو حالات التجلّي الشعوري والحسي وسيطرتها على وعي الشاعر بالكامل؛ في حالات الانفعال القوي والشديد تحت تأثير حدث وتجربة مؤلمة أو سعيدة – على حد سواء - ... فتجعله يبوح بمكنون شعوره مقروناً بإرهاصات تجربته، وقوة تأثير الهبَّة الشعورية المصاحبة للحدث، فتدفعه دفعاً للتعبير عنها، وسكب انفعالاته ومشاعره خلالها، هذا في حالات الانفعال الشديد، فكثيراً ما يحملنا حدث ما على التعبير عن انفعالنا معه وبه بقوة، لا شأن لها بالوحي ولا بالخيال، بل هو الوعي والانفعال والتأثر، مقروناً بالثقافة والمخزون التجريبي واللغوي.

يرى الشاعر صالح أحمد أن الشعر الحداثي لم يعد يحفل بالموضوعات، بل أصبح يزخر بالوجدانيات، التي تعني بحقيقة أمرها الكلّيات الحياتية، التي يعبر عنها كل من زاوية حسه ووعيه وتفاعله بها ومعها، بمعنى أوضح: حين أكتب عن القدس مثلاً، لا أشعر أن القدس موضوع للتعبير (أعبر عنه) بل أشعر أنها حالة أعيشها بوجداني وشعوري فأجليها تعبيرًاً، وهذا ما يفسر حالة النفور من المباشرة في التعبير التقريري، والابتعاد عنه إلى عالم التعبير الوجداني والشعوري المشبع بالوعي فكرًاً وحسًاً، لم تعد المرأة مثلاً؛ موضوعاً للتعبير وللشعر كما كانت عند نزار قباني مثلاً، بل أصبحت قيمة وجودية حياتية حسية يتماهى في عوالمها الحس والوعي لتصبح أفقًاً وجودياً يدخله الشاعر بوعيه ليعبر عن ناموس الحياة المتماهي معه.

لذا، لا أقول إنني اكتب في موضوعات محددة، بل أفتح من خلال كتاباتي آفاقاً فكرية ووجدانية وحسية، على أمل أن يلجها القارئ بوعيه وحسه ليجد نفسه في مكان ما فيها، أو خلالها. لذلك، لم يعد شعر الحداثة أحادي الصوت، بمعنى: لم يعد يتذوقه ويفهمه الجميع بنفس الماهية أو المقدار، بل يهضمه ويتذوقه ويعيشه ويفهمه، كل بحسب ما يثير في نفسه من حس ووعي.

أما بالنسبة له كشاعر وككاتب، فقد قال: يشغلني الهم العربي، هذا الهم الذي يعمق بي الجرح كفلسطيني، ويعمق بي الألم كإنسان، ويثير بي الحلم المنشود كباحث عن الحق، وكناشد للحرية، وكعاشق للحياة في هذه الدائرة الحسية والوجدانية أدور بشعري ووعي وأدبي.

كما إنه يرى لا انفصال ولا تنافس بين قصيدة النثر والموزونة بقالبيها الكلاسيكي والتفعيلي، فهذا سؤال ذكي شائك، يلخص النقاش الدائر اليوم في المدارس الأدبية والنقدية الحداثية، والذي يتمحور حول مفهوم الشّعر- Poetry- والشّاعري، أو الشّعري- Poetik.

وأنا أرى أن لا انفصال بينهما إذا سلّمنا بأنّ الشّاعر بالمفهوم المعاصر؛ وكما ذكرت في مقدمة ديواني \"اليوم قمحٌ.... غدًا أغنية\" هو مَن تولد الألفاظ في وعيه مبلورة إلى آفاق فكرية ومعان تحمل مراقِيَ تعبيريّة تسمو باللّغة المألوفة إلى أفقٍ من الفنتازيا الفكرية المتَصَوَّرَة؛ تستثير خيال وفكر ووعي القارئ، ولا يكون الشّاعر شاعرًاً إذا لم تولد المفردات والتّعابير والمعاني في وعيه مموسقة، الأمر الذي يجعلني أجزم بأنّه الوميض الحسّي والتّصوّري والفكري الذي يميّز الشّعر عن أي جنسٍ أدبي آخر، وهو ما يكسب المفردة والتّعبير صفة الشّاعريّة، ليرقى بها إلى مرتبة الشّعر،

ويصف الوزن في الشعر بقوله: وما الوزن إلا أداة ووسيلة من شأنها أن تصقل، تضبط، وتحدد ملامح هذا الوميض وإشراقاته النّغميّة الموسيقية لا أكثر، ولكنّها أبَدًا لا تشكّل شرطًاً للمزاوجة بين الشّعريّة والشّعر، أو بجعل الشّعريّة تنصهر في بوتقة الشّعر لتولد القصيدة، مع التّأكيد على أن لا فصل بين الشّعرية والشّعر من حيث البعد التّلازمي للمصطلحين، فلا شعر بلا شعريّة، ولا يمكن للتّعبير أن يرقى إلى أفق الشّعر إن لم يُتوّج بروح الشّعرية.

وله أيضاً دواوين نثرية، أنا شخصياً، كتبت قصيدة النثر، ولي ديوانان كاملان يعتمدان قصيدة النثر الخالية من الوزن، كما إنني اكتب القصيدة العمودية (الكلاسيكية) وقصيدة التفعيلة الموزونة، ولا أجد أن الأمر متناقض، بل أجد أن روح النص وروح الحدث وروح الفكرة تفرض القالب الشعري والتعبيري بوعي منا أحياناً وبلا وعي أحياناً أخرى، بمعنى: أنني حين أمسك القلم لأكتب، لا أقرر مسبقاً كيف، ولا بأي قالب سأصوغ فكرتي، بل هي تأتي هكذا بتلقائيتها.

لذا لست مع القائلين بأن قصيدة النثر تنافس الموزونة بقالبيها الكلاسيكي أو التفعيلي، بل أرى أنها – قصيدة النثر - أضافت أفقاً جديداً للانطلاق التعبيري.

والخطر الحقيقي في قصيدة النثر برأيه، أنها حين تمارس بلا وعي شعري وثقافة أدبية، تجنح بكاتبها إلى الإغراق بالنثرية على حساب الشاعرية، فكثيرًا ما أقرأ نصوصاً تخلو من الألق النغمي، والحس الموسيقي الذي يفقدها الروح الشاعرية، كما أنه ينقص من قيمتها الشعرية.

يؤكد بأن لا جمود في الشعر، وإنما منهجية التطور والانفتاح فقط: قالوا: كل قديم كان حديث في أوانه (عصره)، وعليه؛ فكل حديث سيبدو قديماً بعد حين، فالقديم والحديث جدلية عبثية، والدليل أننا ما زلنا نتذوق الشعر القديم، ونطرب له، بل نحن إليه بأرواحنا، وحسنا التائق إلى الأصالة وإلى التذوق النغمي الموسيقي الراقي فيه، فيجعلنا ذلك ندرك أن القصيدة مهما شاخت، ستتجدد بوعينا وحسنا كأنما تولد من جديد.

التطور التعبيري والأسلوبي، يفتح أبوابا وآفاق جديدة، ويخلق أنماطا تعبيرية وأسلوبية جديدة نعم، ولكنه لا يلغي ما سبقه أبداً.

ومن هنا نخلص إلى نتيجة حتمية، لا ثبات في عالم التعبير، لأن الثبات يعني الجمود، وبالتالي عدم التطور والتجديد، الذي يتنافى والحتمية التطورية والمنهجية نوع من الجمود. لذا، فإن الشعر يقبل منهجية واحدة هي منهجية التطور والانفتاح على الأفق التعبيري لضم كل جديد ومتجدد، ليواكب ركب التطور من ناحية، وليلائم الذائقة التي لا يمكن فصلها عن الواقع الحياتي المتطور.

• إنتاجي الأدبي والإبداعي:

أعمالي تتنوع بين الشعر والمسرح والدراسة الأدبية. كتبت الكثير من القصص القصيرة، ونشرتها في الصحف والمجلات والمواقع، ولكنني أعترف بتقصيري في هذا المجال، إذ لم أصدر حتى الآن مجموعة قصصية، ولكنني أحضر لمجموعتي القصصية الأولى بإذن الله.

صدر لي حتى الآن: أحلى نداء – شعر- 1985. الصرخة – مسرحية – 1987. سبع عجاف – شعر – 1991. رموز فجر المرحلة – 1998. مدارات الروح – شعر – 2001. الخماسين – شعر- 2003. مدن المواجع : خواطر شعرية 2010. العمق الفكري والفلسفي في أدب معين حاطوم... دراسة، ط1- 2011- ط2- 2014. مرثاة لتضاريس السّلالة؛ شعر، 2014. فلسفة معين حاطوم الحسّيّة في السمفُسرديّة - دراسة نقدية تحليلية 2015. اليوم قمحٌ.. غذًا أغنية، شعر – 2016. ما جئت إلا كي أغني - شعر 2017. مغامرات النحلة سالي، قصة للأطفال، 2018.