أزمة ضمير في الصحافة العربية من نقل الحقيقة إلى تسويق الإشاعة
تخلّت الصحافة العربية، في كثير من تمظهراتها الحالية، عن مهمتها الأصلية في نقل الحقيقة والاشتغال على القضايا الجادة، كونها لم تعد تسابق الزمن من أجل كشف الفساد أو تحليل السياسات العمومية أو استقصاء خلفيات القرارات السياسية، وإنما أصبحت تلهث وراء الترند واللايك والمحتوى السريع، مواقع إلكترونية عربية مغربية تنشر خبراً كاذباً عن وفاة فنان شهير، دون التحقق من المصدر، لمجرد تحصيل أكبر عدد من الزيارات، وفي لبنان مثلاً تغرق بعض المنصات في الشائعات حول قضايا سياسية أو فنية لأغراض استقطابية، بينما تُغيب التحقيقات الجادة حول الأزمات الاقتصادية أو الفساد المتجذر في الطبقة الحاكمة.
فقدت العديد من المنابر الإعلامية مصداقيتها بعدما ارتضت أن تكون بوقاً للدولة أو امتداداً لوزارة الداخلية، ففي مصر مثلا لم تعد بعض الصحف الكبرى تتناول القضايا الحقوقية أو تجس نبض الشارع، وإنما انحازت بشكل فج إلى خطاب السلطة، وتجاهلت قصص الاختفاء القسري أو الاعتقال السياسي، لتُعيد صياغة الواقع بما يرضي مموليها, ونفس الأمر يتكرر في عدد من الدول الخليجية، إذ لا صوت يعلو فوق صوت البيانات الرسمية، وتتحول القنوات والصحف إلى أدوات لتجميل صورة الأنظمة ومهاجمة الأصوات المستقلة.
وتمارس منابر إعلامية ممولة من الخارج دوراً مشبوهاً في تشكيل وعي مزيف يخدم أجندات أممية أو طائفية أو استخباراتية، فبعض وسائل الإعلام التي تتلقى تمويلاً مباشراً من الأمم المتحدة أو منظمات أوروبية تُقدَّم على أنها مستقلة، لكنها تروج لأطروحات غريبة عن السياق المحلي، وتتجنب الحديث عن الاستغلال الاقتصادي أو السياسات النيوليبرالية التي تفرضها المؤسسات الدولية على الدول العربية.
وتعرف في المغرب مثلاً، منصات إعلامية بارتباطها بأجندات التمويل الأوروبي، تنشر خطاباً انتقائياً حول حقوق الإنسان، لكنها تصمت حين يتعلق الأمر بانتهاكات تمس السيادة الوطنية أو الدين أو الأسرة.
وتنخرط بعض المنابر في خطاب طائفي مموَّه، تحت شعارات ثقافية أو هوياتية مضللة، ففي الجزائر والمغرب وتونس، برزت مواقع وقنوات تدّعي الدفاع عن الهوية الأمازيغية، لكنها في العمق تروج لخطاب انفصالي، مدعوم في أحيان كثيرة من جهات صهيونية تستثمر في تراث الأمازيغ اليهود لإعادة تشكيل الوعي الجماعي على أسس عرقية بدل الوحدة الوطنية، وهذه المنصات لا تسعى إلى إنصاف الثقافة الأمازيغية كمكون أصيل، بينما توظفها كأداة تفتيت، تتعمد مهاجمة الإسلام والعربية وشيطنة التاريخ المشترك بين مكونات المجتمع.
وتواطأت مؤسسات إعلامية ثقافية في خيانة دورها الأساسي حين أصبحت رهينة للدعم المشروط، سواء من حكومات أو سفارات أو هيئات دولية، فلم تعد تلك المنابر الثقافية التي تُناقش راهن المسرح العربي أو أزمة النشر أو التحولات الاجتماعية الجذرية، وإنما أصبحت تتلقى تمويلاً من المعهد الفرنسي أو المؤسسة الألمانية أو السفارة الأمريكية، مقابل نشر خطابات محددة بعناية. وفي بعض المهرجانات الأدبية أو السينمائية، تم استبعاد المثقفين الذين يرفعون صوتهم ضد الاستعمار الثقافي الجديد، وتمت مكافأة أولئك الذين يرددون خطاب التنوع والحداثة بمعناه الاستهلاكي السطحي.
وتساهم هذه الانزلاقات في ضرب الثقافة في العمق، فإذا كانت الصحافة هي مرآة الواقع ومحرك الرأي العام، فإن انهيار مصداقيتها يعني أن الثقافة ستصبح مجرد زينة تُعرض في المهرجانات، لا قوة فكرية تواجه الظلم وتخلق التغيير.
فكيف يمكننا الحديث عن ثقافة نقدية إذا كانت الصحافة تروّج للإشاعات وتغض الطرف عن الحقائق؟ وكيف يُمكن تربية أجيال ناقدة وواعية في ظل صحف تكتب وفق ما يُملى عليها، لا ما يُمليه عليها ضميرها المهني؟
وتهدد هذه الممارسات، العلاقة بين الجمهور والثقافة، وكسرت الثقة في الصحفي كمثقف ملتزم، وصرنا نرى شباباً يُشكك في كل ما يُكتب، ويعتبر كل إعلام أداة تزييف، بعد أن فقد القدرة على التمييز بين المهني والمأجور، وفي العراق وسوريا أصبح الإعلام الطائفي وسيلة لتأجيج الكراهية، بينما هُمّشت الصحافة التنويرية التي تدعو إلى العيش المشترك.
وتتطلب المرحلة الراهنة وقفة ضمير، ومراجعة جذرية، إذ لا يمكن الحديث عن مستقبل ثقافي صحي دون إعادة الاعتبار إلى الصحافة كأداة للتنوير، لا للتضليل. وعلينا أن توقف هذا العبث ونعيد تكوين الصحفي كمثقف، لا كناقل ترند، وأن نحرر المنابر من سلطة المال والسلطة والجهات الأجنبية، فوحدها الصحافة الحرة القوية القادرة على تحصين الوعي الجمعي وبناء ثقافة تصمد في وجه الإشاعة والخطاب المفبرك.