أغوتا كريستوف: لعبة ملاحقة الصور

الكاتبةُ الهنغارية تستمدُ مادتها الروائية من تجربتها مع المعاناة الناتجة من الحرب والإغتراب والتشظيات لذا فإنَّ الحزنَ يسكنُ نصوصها بل يصحُ وصف صاحبة "الأمية" براوية أحزان غير عادية، فالمواقف تأتي صادمة في رواياتها متلبدة بالعدمية.

الكثافة التعبيرية والإقتصاد في اللغة آلية مؤثرة في بناء العمل الروائي فالإيجاز كما يقولُ تشيخوف هو صنو الفن إذ كلما تمكنَ المبدع من التصرف بالمساحة ، وزاد وعياً بحيثيات المسلك السردي تتضاعفُ الطاقة الإيحائية للغة الأمر الذي يوفر مجالاً لإشراك المتلقي في سد الثغرات وفي ذلك يكمنُ عنصر التشويق وسحر القصة.

تراهنُ الكاتبةُ الهنغارية أغوتا كريستوف على البساطة في تأثيث سرديتها الروائية.وهذا ما يبدو واضحاً في ثلاثيتها " الدفتر الكبير ،البرهان ، الكذبة الثالثة" إذ تتصفُ اللغة بالإنسيابية ، والسلاسة ، ومن المعلوم أنَّ أغوتا تستمدُ مادتها الروائية من تجربتها مع المعاناة الناتجة من الحرب والإغتراب والتشظيات لذا فإنَّ الحزنَ يسكنُ نصوصها بل يصحُ وصف صاحبة "الأمية" براوية أحزان غير عادية.فالمواقف تأتي صادمة في رواياتها متلبدة بالعدمية.

يتنكرُ لوكاس لهوية الرجل القتيل في "البرهان" مع أنه يعرفُ بأن الجثة لوالده الذي أراد عبور الحدود مع إبنه كلاوس.إذاً فإن الشخصيات ترزحُ تحت وبيل الدمار في أعمال صاحبة رواية "أمس" فالبتالي ينزلُ ماكتبتهُ ضمن أدب الحرب.

تمكنتْ أغوتا كريستوف من صياغة هويتها الإبداعية بحيثُ أبدعت في إشتقاق معجها الخاص في الكتابة فهي من فئة الكتاب الذين لايصعبُ عليك التعرفَ على أسلوبهم أمثال ستيفان زفايغ ،وتيشخوف ،وأنطونيو سكارميتا.مايضمهُ أخر ماصدر لأغوتا كريستوف بعنوان "سياّن" بترجمة محمد آيت حنا مطبوعُ بمنزعها التعبيري البسيط لكن الملمح اللافت في هذا العمل هو غياب العلامة التجنسية هذا إضافة إلى البنية الغرائبية لبعض النصوص المبثوثة في تضاعيف الكتاب.

الغموض

إذ تنفتحُ المحتويات بنص مشحون بتوتر درامي يذكركَ برواية "المحاكمة" لكافكا إذ تتوجس المرأة خيفة من إتهامها بالضلوع في قتل زوجها لأنها وضعت الساطور بجانب السرير كي يقعَ عليه.

لايسمعُ غير كلامها الذي يتوالي بصيغة توضيحية مؤنبة الطبيب على الإفتراضات التي تراوده بشأن نهاية الرجل، وفي الأخير يلتبسُ الأمر على المرأة عندما يطالبُ الدكتور الإسعاف متوقعة بأنَّه يريدُ تحميل الجسد الهامد فيما كان ذلك من أجل نقلها إلى المستشفى هنا تنتبهُ إلى الدم الذي لطخ ثوبها مشيرةً إلى أنَّ مايراه ليس إلا دم زوجها الفائر، وفي النص الثاني يكتنزُ المشهدُ بالتعبير البصري إذ يتمُ رصد تمثال لكلب يجثو رجل حذوه وذراعاه تطوقان عنق الكلب مع الإشارة إلى مايمتدُ نحوه نظرُ الإثنين ويهمُ الراوي وصف المكان الواقع على مرمى نظر الرجل وهو قضبان السكة الحديد التي اجتاحتها الأعشاب لافتاً إلى عدم مرور القطار فوقها منذ زمن طويل وهذا ما يذكرك بالبلدة التي شكلت الحاضنة المكانية لرواية "البرهان" حيثَ أصبحت جزءاً من جغرافية الطبيعة كذلك بالنسبة للقرية كانت تخدمها المحطةُ قد خلت من سكانها لايزورها إلا عددُ من سكان المدينة كلما حلَّ الموسم اللطيف.

وعنصر المفاجأة في القصة يتمثلُ فيما يقولهُ رجل التمثال وهو ينتظرُ قطار الشمال كاشفاً عن ملابسات ماتحولُ إليه.إذ سممَ كلبه بعدما لم ينفك منه متعلقاً بسترته رافضاً رحيله وينحتُ الرجلُ تمثال الكلب على مدفنه وما أنَّ أراد توديعه بقبلة الوداع حتى تحجر يُسدلُ الستارُ على هذا المشهد بإعتراف الرجل بأنَّه لاوجود له وما عاد أحد ينتظرهُ ،وكل ماهنالك عبارة عن لعبة بينه وبين كلبه.

تتراوحُ الحلقة السردية التالية "في بيتي" بين إفتراضات الساردة حول عودتها إلى البيت ومايسودهُ من أجواء حميمية وتعافيها من الخوف الذي يهاجمها كلما سمعت عواء الأشجار.

تتابعُ متخيلةً تفاصيل حياتها اليومية ومايقعُ عليه نظرها وهي تمشي في الأزقة ومصادفتها للرجل الثمل ولأطفال عراة يتشقلبون وفي الختام يومضُ السؤال الإستهلالي هل يحدثُ ذلك في هذه الحياة أو مؤجلة لحياة أخرى.يعاينُ الرجلُ في النص المعنون ب"القناة" ملامح المكان مستغرباً تغير بعض سلوكيات سكانه.لايختلفُ إحساسه عما تشعرُ به شخصيات رواية "الكائن الذي لاتحتَملُ خفته" بعد تبديل عناوين وأسماء الشوارع.

في بوهيميا الإيحاء

المشتركُ في الأجزاء المكونة لهذا الكتاب هو اللغة الإيحائية في تركيبة السرد ناهيك عن المفارقة التي تراها بالوضوح في النص المعنون بـ"الأرقام الخاطئة" كما أنَّ الترقب سمةُ بارزة لشخصيات أغوتا كريستوف فالحياةُ تبدوُ ناقصةً وهذا مايكون هاجساً نفسياً تفصحُ عنه حركةُ النص والعتبات الداخلية مثل صندوق البريد ، وعجلة الحظ الكبرى، والأزقة أكثر من ذلك لايشقُ على المتلقي معرفة النفس السوداوي في نصوص كريستوف ففي نهاية "عجلة الحظ الكبري " تقول الراوية مخاطبةُ الآخر "الشيء الوحيد الذي يمكنُ أن يخيف ويسبب الألم هو الحياة،والحياة أصلا أنت تعرفها" وهذه العبارة إمتدادُ في دلالتها السوداوية لما ورد في "الكذبة الثالثة " حيث تقولُ كريستوف "الكتاب مهما كان كئيباً لا يكون بمثل كآبة حياة". ومايشدُ الإنتباه في النص الموسوم بـ"الأم" هو إنفتاحه على التأويلات ومرونته في الإيحاء بطبيعة عمل الإبن عدا ذلك فإنَّ الكاتبة قد جمعت عناصر القصة كلها في مساحة محددة بحيثُ ماتعبرهُ بكلمات مقتصدة يمكنُ نقله إلى الشاشة ورؤيته في مادة فيلمية.فالنزعة العبثية المعطمة بالسخرية هي ماتدبُ في مناخ النص الأخير "أحسب".

وفي الأخير مايجدرُ بالذكر هو كلام المترجمِ عن هذه النصوص التي هي آخر أعمال أغوتا كريستوف على حد قوله وامتدت طيلة حياة المؤلفة واستمرت في كتابتها زمناً متفرقاً بحيث رافقت هذه النصوص رواياتها وشكلت معيناً لأعمالها الإبداعية الأخرىن، وما أن تنتهي من قراءة محتويات "سيان" حتي تدرك بأنَّ كريستوف قد لاحقت صوراً ومضت في الذاكرة ودونتها قبل أنْ تنطفيءَ.