رسالة نجيب محفوظ إلى كاتب مبتديء

اللافت في الأمر أنّ الأستاذة كانوا يتوقعون مستقبلاً علمياً للطالب الأديب لأنَّه قد نبغ في المواد العلمية واستهوته الدراسة الفلسفية وهو يعترفُ بأنَّ في بداياته كان متأرجحاً بين الفلسفة والأدب.

تمكن نجيب محفوظ من إنشاء هويته في الكتابة وذلك من خلال ما أضافه إلى سجله الإبداعي من التنوع والتجدد في خطه الروائي والباحث في مسيرته الحافلة بالأعمال القيمة يجدُ انعطافات في تجربة الكتابة بدءاً من "عبث الأقدار" وصولاً إلى ما نشر له بعنوان "همس النجوم" وما أسبغ خصوصية إلى صوت نجيب محفوط هو أنَّ حفره في التربة المحلية لم يمنعه من متابعة حركة الإبداع العالمي بل سجلَ نجاحاً وسبقاً في اكتشاف الروح الكونية في تشكيلة الحكايات المحملة  بأنفاس الإنسان المصري.

زعاصر مؤلف "قلب الليل" مرحلة النهوض الفكري والأدبي في العالم العربي وتابع ما يمور به المشهد من تجاذبات بشأن الفن الأحدث، نقصد الرواية، والرهان المعقود عليها. إذ عبر محفوظ عن رأيه بوضوح حين كان النقاش قائما عن الجنس الأدبي الأصلح لتلبية متطلبات العصر ومواكبة التحولات في الرؤية والمذاق، فالقصة هي الفن الأنسب في نظر محفوظ لأنها تجمع بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه القديم إلى الخيال.ومن المعلوم أن منطق الزمن أكد صحة ماذهب إليه محفوظ عن تفوق الرواية على غيرها من الأجناس الأدبية التي لم يعد لها في قوس المنافسة منزع.إذن تمتازُ أراء محفوظ عن مستقبل الرواية بالفهم الحيوي وإلى الآن تحافظُ على راهنيتها.

دينامية الإبداع

أدرك صاحبُ " قشتمر" بأنَّ التحولات الواقعية تلقي بظلالها على شكل الكتابة ولايُطبخُ النص الإبداعي من البرج العاجي لذلك فهو يصومُ عن كتابة الرواية لمدة سبع سنوات عقب ثورة يوليو  وماتبعها من التطورات على الأصعدة كافة. وكلما سئل في غضون هذه الفترة عن أسباب التوقف عن كتابة الرواية كان رده بأن العهد الجديد يتطلب طريقة أخرى في التفكير وأن مرحلة ما بعد الثورة تستغرق وقتا واسعا قبل أن يفهمها الفنان ويتمكن من استبطان روحها.وإن مابدا نهاية للعمر الأدبي والحبسة المزمنة عن الإبداع ،وفي الحقيقة لم يكن إلا استراحة قبل أنْ يبدأَ محفوظ جولة إبداعية جديدة فاتحاً شريطها برواية "أولاد حارتنا" التي تؤشرُ إلى منحى مختلف في التناول الإبداعي إذ أصبحت لغته أقرب إلى رمزية مستلهماً من الموروث الديني ومن ثمَّ يختبر الكتابة بنفس ملحمي كما يتجلي ذلك في "الحرافيش".

وما أثار الجدل النقدي هو الروايات التي تصنف ضمن المرحلة الوجودية في أدب محفوظ. "اللص والكلاب"، "الشحاذ" ،"الطريق" هذا إضافة إلى "ثرثرة فوق النيل" التي يرى فيها البعضُ نصاً نبوئياً.لم يكتفِ نجيب محفوظ برصد الظواهر والمشكلات الاجتماعية في هذه الحلقة الإبداعية إنما امتدَ  حزام السرد لمعالجة مشكلة الوجود، والعبث ،والمصير التراجيدي

. يشيرُ مصطفى التواتي في مقدمة كتابه "دراسة في روايات نجيب محفوظ الذهنيَّة" إلى اختلاف النقاد في تسمية هذه المرحلة فمنهم من يرى فيها واقعية جديدة كما عدَّها الآخرون مرحلة فلسفية أو فكرية أو ذهنية بقطع النظر عن الجدل حول المُصطلح ثمة اتفاق على أنَّ الأعمال المشار إليها آنفاً تعتبرُ ثورةً على مستوى الشكل والمضمون في منجز نجيب محفوظ الإبداعي.

ويعتقدُ مصطفى التواتي بأنَّ الأفكار الذهنيَّة المجرّدة حلّت محل الشخصيات وخلت العقدة الكلاسيكية المكان للأطروحة الفلسفيَّة في معطيات تلك الأعمال. إذ تبدأُ حركتها السرديَّة بلحظة انعتاق أو انفكاك من قيدٍ ما،  ففي "الطريق" يخرجُ صابر من طوق الأم. كما أنَّ سعيد مهران ينفكُّ من أغلال السجن ويهرب "عمر الحمزاوي" من قيد الرتابة والالتزامات الأسريّة في "الشحاذ" قبل دراسة مكونات السرد يتناولُ مصطفى التواتي خصائص هيكليَّة للروايات الذهنيَّة مشيراً إلى تفوق نجيب محفوظ في تحديد البدايات الدراميَّة إذ يستبطنُ سرائر الشخصيَّة الرئيسة ومن ثمَّ يتكوّنُ بناء البعد الدرامي بالتدرّج.

 فالظاهرة التي تشتركُ فيها شخصيات روائيّة في هذه المرحلة هي البحث عن المعني الذي قد يُرمزُ إليه بالأب أو استعادة الابنة والثأر من الخائن كما يُلاحظ ذلك في “اللص الكلاب” أو قد يكون الامتاح من اللذة تعبيراً عن الشوق العارم للتعافي من الخواء مثلما يجسّدُ عمر الحمزاوى هذا المسعى في “الشحاذ" ومايخلصُ إليه المتابعُ لعالم نجيب محفوظ الروائي هو ذكاءُ الكاتب في قراءة الواقع ومغامراته في الذهاب بالنص نحو مناطق بكرة وهذا أضفي على أعماله مرونة بحيثُ تراها منفتحةً على قراءات متعدد، .لكن نجيب محفوظ ليس اسماً واسع الحضور في المشهد الأدبي بإبداعه فحسب إنما شخصيته الإنسانية وتفكيره العقلاني وحسن إدارته للوقت كل ذلك مواصفات استثنائية في تكوين مؤلف "حكايات حارتنا".

وصايا محذوفة

لم يسرد نجيب محفوظ سيرته الذاتية في كتاب مُستقل صحيح أنَّ جانباً من حياة أي كتاب يتسرب إلى أعماله الروائية وقد تحملُ بعض شخصياته الورقية شيئاً من بصمته الجينية لكن هذا التواري خلف غُلالة النص المُحتفظ بجغرافيته دائما يؤجج جملة من التأويلات المحيلة إلى تفاصيل حاجبة لصورة الكاتب لذا فإنَّ البحث عن وجه المبدع والتنقيب عن ملامحه وأبعاد حياته الشخصية سيكون مستمراً خارج مضامين إصداراته الأدبية ومن هنا تحظى الحوارات المنشورة مع المبدعين باهتمام المتلقي، لأنها تفسح المجال لمعرفة بعد آخر من تكوينهم المعرفي ومكابداتهم مع الواقع سواء أكان فكرياً أو إبداعياً.

لايوجدُ في رصيد نجيب محفوظ عنوان مكرس لسرد تجربته الروائية أو يقدمُ فيه كواليس كتابة أعماله أو ما يتضمنُ وصاياه لكتاب ناشيء على غرار ماتراه لدى عدد من الكُتاب العالميين غير أنّ ماورد في سياق الحوارات المنشورة مع مؤلف "همس الجنون" يفتحُ مجالاً لمعرفة بدايات نجيب محفوظ وخلفيته الفكرية والأجواء التي اختمرت في بودقتها أفكاره الإبداعية.

واللافت في الأمر أنّ الأستاذة كانوا يتوقعون مستقبلاً علمياً للطالب نجيب محفوظ لأنَّه قد نبغ  في المواد العلمية واستهوته الدراسة الفلسفية  وهو يعترفُ بأنَّ في بداياته كان متأرجحاً بين الفلسفة والأدب "كنتُ أمسك بيدٍ كتاباً في الفلسفة وفي اليد الأخرى قصة طويلة من قصص توفيق الحكيم أو يحيى حقي أو طه حسين وكانت المذاهب الفلسفية تقتحم ذهني في نفس اللحظة التي يدخلُ فيها أبطال القصص من الجانب الآخر"ومايشدُ انتباه في مسار نجيب محفوظ الإبداعي هو الغزارة في التأليف مع أنَّه كان موظفاً ويسرق الروتين من وقته إذن كيف نجحَ في أن يكون كاتباً متجدداً وموظفاً مُلتزماً ومعيلاً للأسرة إضافة إلى كونه لاعباً للكرة في مرحلة ما؟!.صرحَ محفوظ بأنَّه لم يكنْ لديه ترف للتفريط بالوقت لذا فطن إلى بأنَّ تفوقه يكمنُ في الموازنة بين مايفرضه عليه منطق الحياة وما كان يطمحُ إليه من الاختراق في المجال الإبداعي.

إذن أهم مايمكن ان يتعلمه الكاتب المبتديء من مهنج نجيب محفوظ هو أنْ يقتنع بأن العبقرية تتمثلُ في التغلب على الروتين وإدارة الوقت كأنَّ بصاحب "السراب" قد استوحي مبدأه الحياتي من حكمة رواقية "إذا تسنى لك ربح الوقت، يسهلُ عليك التحكم في ذاتك"أكثر من ذلك لم يعرف عن نجيب محفوظ الانخراط في الحروب الكلامية مع معاصريه وبذلك وفرَّ على نفسه الخصومات التي لاتضيف شيئاً إلى مقام الأديب  كما لم يبحث عن الأضواء بفتح الجبهات والجلبة المُفتعلة واشتهر بتواضعه وقد كان يعزو هذه السجية في شخصيته إلى مجاورته لقامات فكرية وهو يقول في حواره  مع مفيد فوزي "نحن بدأنا وأمامنا كوكبة من الأدباء البارزين  أمثال العقاد ،طه حسين، توفيق الحكيم، المازني وهم كانوا متشبعين بالتراث والثقافة الغربية ومن هنا عرفنا بأن طريقنا طويل وبالتالي ما أسرفنا في تقدير الذات".

ما يفهمُ من كلامِ محفوظ أنَّ الأنموذج المثالي له دور كبير على التنشئة الذهنية، وماتمسك به نجيب محفوظ وله تجليات في أعماله الإبداعية هو العلم والإشتراكية وقد تمنى أن يكون العلم ديوان العرب.

كانت الغاية من مشروعه الإبداعي هي أن يمدَّ بحدود الحارة نحو المدار الكوني وتكثيف الهموم الإنسانية والوجودية وصخب التاريخ في مساحة الأزقة والحارات المترعة بالحياة وبذلك أضاء بعداً كونيا في الطينة المحلية.مايجدرُ بالإشارة أن الغرض من العودة إلى محفوظ ليس الإعلانَ بأنَّه قد أخذ بالرواية إلى مطافها الأخير وقفل باب الاجتهاد الإبداعي هذه الرؤية لاتوافق جوهر الرسالة الأدبية ولامنطق الإبداع وكل يتوخاه المتأمل في عالم محفوظ هو اكتشاف الخصوصية الفنية لنصوصه والمقومات التي ينطلق منها مشروعه الإبداعي.