أموال ومفلسون.. طائرات وموتى

حروب المال تقتل مثلما تفعل حروب الطائرات.

بين ليلة وضحاها اكتشف العراقيون والسوريون واللبنانيون والمصريون أن الأموال التي أدخروها لمستقبلهم لم تعد لها قيمة تُذكر. لم يكن ذلك قدرا مكتوبا ولم يحدث بفعل الصدفة. كل شيء كان مبيتا. فليست السياسة حفلة تنكرية ولا يلعب السياسيون إلا بمصائر بشر خضعوا أو أُخضعوا لعنف علني أو خفي كان من شأنه أن يسلمهم إلى الفاقة إن أخطأتهم رماحه القاتلة. فبدلا من أن يدفع السياسيون العربة التي يقودونها إلى أعلى التل هبطوا بها إلى الهاوية. لا يتعلق الأمر ببرامج اقتصادية مفقودة، بل أن هناك مَن عمل على إفراغ كل الخزائن من محتواها فصارت العملات الورقية المحلية مجردة من قيمتها وزاد عدد الأصفار واكتشف الناس بلاهة اعجابهم بالأرقام.

وفيما كثر عدد المسافرين في العالم واكتظت المطارات وكبرت حجوم الطائرات لتستوعب أحلام الذاهبين لقضاء أعمالهم أو أيام اجازاتهم بين ناطحات السحاب والأبراج والجزر السعيدة باستقبال ضيوفها ببطاقاتهم المصرفية التي تعلن عن تخليهم عن الورق الذي تم استبداله بالبلاستك كانت الطائرات المحلقة في سماء دول بعينها لا تحمل إلا أنباء حزينة. تلك هي الرسائل التي تحملها القنابل التي لا تفرق بين غني وفقير وإن كانت للفقراء لأول مرة حصة الأسد من حريق الغابة. لقد قيل إن المفلس في القافلة أمين ومطمئن. وهو قول ليس صحيحا دائما. فالقتلة الذين لا يرون ضحاياهم يعرفون أن هناك مَن لم يعد يكترث بالمفلسين، قل عددهم أو كثر. مثلما النقد كانت الطائرة اختراعا عظيما نقل البشرية من مستوى الضيق إلى مستوى السعة بما يوازي رغبة الإنسان في اكتشاف الكوكب فإنها مثل النقد أيضا تحولت إلى وسيلة للقتل بأقل كلفة.

حروب المال تقتل مثلما تفعل حروب الطائرات. أما حين تخلى المال عن النقد فقد تخلت الطائرات هي الأخرى عن المسافرين وحقائبهم وصارت تنقل مَن تستهدفهم إلى مكان، يقع خارج الكوكب. والمال الذي كلما ارتفعت تلاله كلما فقد سبب وجوده صار يوظف في اقتناء ادوات النقل السريع إلى عالم أفضل لا يحتاج فيه المفلسون إلى الأوراق النقدية ولا إلى البطاقات المصرفية. وليس هناك ن شروط للتأمين. فالمفلس لن يمشي في قافلة لكي يكون في أمان. مهما كثرت أعداد المفلسين فإن كل واحد منهم يعيش غربته وحيدا. وقد لا تكون القنابل التي تلقيها الطائرات أسوأ من الأيادي التي تفتش في جيوب المفلسين بحثا عن صفر زائد. حين احتل الأميركان العراق فإنهم ذهبوا إلى بلد مفلس غير أنهم خرجوا منه بأطنان من الذهب بعد أن القت طائراتهم عليه أطنانا من اللهب. 

ليست المجتمعات العربية في أمان. لا لأن الطائرات لم تتوقف عن الإغارة عليها وهو أمر متوقع بين لحظة وأخرى، بل لأنها باتت مجتمعات مفلسة. بحر من المفلسين يمتد من القاهرة إلى بغدد مرورا ببيروت ودمشق. فيضان ذلك البحر قد يلتهم كل شيء، الأرض وما عليها. لا تخدعنكم المدن الجديدة التي تُبنى ولا الطرق التي تُشق ولا المجمعات التسويقية التي صارت عنوانا لترف كاذب وسعادة زائفة. كل هذا يمكن أن يزول في لحظة إذا ما صار الخبز أشبه بالبدر الذي لا تطاله الأيدي. سخرية طفل يمكن أن تشق طريقها إلى أكثر المحافل سرية. 

كلما يستقل المرء الطائرة عليه أن يتذكر طوابير المشاة الجوعى الذين ينظرون إلى السماء بخوف كلما رأوا طائرة تمر من فوقهم. فلربما ستحمل معها أنباء غير سارة لعوائلهم التي تنتظر عودتهم بالخبز. وحين ينقضي الأمر بسلام يضع المشاة أيديهم على جيوبهم الفارغة وهم يتخيلون أن لها قلوبا كسيرة. لسان حالهم يقول لقد نسانا العالم أما حين يتذكرنا فإنه يبعث لنا شياطينه الطائرة لتخفينا لا لتخيفنا. لقد انتهى زمن الخوف وحان زمن الاخفاء.

حين انشقت الأرض وابتلعت نصف بيروت كان اللبنانيون على وشك الانفجار بعد أن نُهبت أموالهم. لفد توقعوا أن لا شيء أسوأ من تلك القيامة. غير أنهم باءوا بالفشل في توقعهم. فمثلما انهارت بيوتهم انهارت ليرتهم، وصارت الأصفار تتوالى حتى فقد النقد قيمته التي كانت افتراضية دائما. سيفتح اللبنانيون ما تبقى من نوافذ بيوتهم على مطار رفيق الحريري ليروا الطائرات التي تمس أرضهم بحنان فيما يتابعون أخبار الطائرات التي تركت أخوتهم موتى في بلاد لا راعي لها.