أم كلثوم في مرآة شوقي ومحفوظ

'أمير الشعراء' كان يرى ان 'كوكب الشرق' معجزة من الصعب أن تتكرر، اما الاديب الراحل الحائز على نوبل فكان يرى ان تمثيلها أحسن من تمثيل عبدالوهاب.
إعجاب شوقي بعبدالوهاب حبسه عن الانطلاق في إعجابه بأم كلثوم
محفوظ: أم كلثوم كانت لديها النية لتقديم "أوبرا" عن إحدى رواياتي الفرعونية

يرى أمير الشعراء أحمد شوقي أن أم كلثوم معجزة من الصعب أن تتكرر، فلو كانت الأصوات معادن لكان صوت أم كلثوم من الذهب الإبريز، إنها أديبة تفهم ما تشدو به، وهي تحفظ القرآن، ولا تشرب الخمر. وقد نظم لها قصيدة خصيصا بعنوان "سلوا كؤوس الطلا"، يقول في مطلعها:

سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها ** واستخبروا الراح هل مسَّت ثناياها

باتت على الروض تسقيني بصافيةٍ ** لا للسلاف ولا للورد ريّاها

وذكر اسمها في البيت الأخير بالقصيدة وقال:

يا أم كلثوم أيام الهوى ذهبتْ ** كالحلم .. آهًا لأيامِ الهوى آها

وقد سمع شوقي عن اسم "أم كلثوم" من ابنته أمينة. قالت: صديقاتي يقولون إن هناك مغنية صغيرة تلبس العقال، وتغني في مسارح القاهرة الآن، وأريد أن أذهب لسماعها يا أبي. وذهب شوقي مع أمينة لسماعها ورؤيتها، فأدرك أنها ليست مجرد مغنية، أو مؤدية، وأنها على وعي تام بمكونات الشعر.

ويروي سكرتيره أحمد محفوظ أن شوقي حضر يومًا قلقًا إلى مكتبه، وطلب نادي الموسيقى الشرقي بالتليفون، وطلب أم كلثوم وحادثها بكلمات كلها اعتذار. فلما انتهى من حديثه معها، التفت إلينا – أنا وولديه – وقال: كنتُ بالأمس في نادي الموسيقى وسلمتُ على الحاضرين هناك، وأنساني الشيطان أن أحييها. ونُبهت إلى ذلك بعد الأوان. فلهذا أساءني أني أسأت إليها غير عامد، فطلبتُها واعتذرتُ إليها.

ويرى أحمد محفوظ أن إعجاب شوقي بعبدالوهاب قد حبسه عن الانطلاق في إعجابه بأم كلثوم كما يجب لها من شاعر كشوقي يتفهم سحر هذا الصوت العلوي. ولكنه تحيز لعبدالوهاب، ولم يشأ أن يغضبه لمكان المنافسة بين الاثنين. فقد كان إذا أحب شيئًا تعصّب له وبالغ في الدفاع عنه بكل أعصابه. وقام دونه بالبذل السخي.

أما أم كلثوم، فقد كان شوقي عندها هو شاعر الشعراء، فقد جمع أعظم ما في الشعر العربي من خصائص أصيلة. وهذا ما دعاها إلى بعثه – بعد رحيله – وكأنه لم يمت، فغنت من قصائده: سلوا قلبي، نهج البردة، الهمزية، ولد الهدى، إلى عرفات الله، النيل، السودان، اتعجل العمر، بالإضافة إلى سلوا كؤوس الطلا.

ولقد ظلت أم كلثوم على عهدها بشوقي لا تقارن به أحدًا من الشعراء، ولا يحتل مكانه عندها أحد. تقول: كنتُ  أقتني دواوينه وأضعها بجانب فراشي، وأقول إن ثروة مثل هذه يجب أن تكون دائما في متناول يدي.

وتضيف: كانت قصائد شوقي آخر ما يحتضن عقلي وعيني قبل النوم. وكنتُ لا أكاد أسمع عن مسرحية مما كتب تُمثَّل في مسرح الأوبرا حتى أذهب لرؤيتها عدَّة مرات. فأنا متعصبة لشوقي تعصبًّا لا حدَّ له، فلم يَجُد الزمان بمثله، إنني أضعه في مرتبة تسبق مرتبة البحتري والشريف الرضي وعمر بن أبي ربيعة. إنني أعرفه قدره وقدر حافظ إبراهيم الذي غنيت له "مصر تتحدث عن نفسها".

وعندما قررت أم كلثوم غناء "سلوا كؤوس الطلا" قامت بتغيير موضعين هما: الشطر الثاني من البيت الرابع الذي كتبه شوقي (وينثني فيه تحت الوشي عطفاها) ليكون (ويلفتُ الطير تحت الوشي عطفاها). والموضع الثاني في صدر الشطر الأول من البيت التاسع والأخير، فقد كتبه شوقي وذكر فيه اسمها قائلا (يا أم كلثوم أيام الهوى ذهبت) ليكون (يا جارة الأيك أيام الهوى ذهبت).

كوكب الشرق بعيون محفوظ

أما نجيب محفوظ، فقد كان منذ شبابه الباكر متيمًا بأم كلثوم، ويذهب إلى حفلاتها. يقول: كانت السهرة التي نسهرها يوم الخميس من كل أسبوع نتعشى خلالها الكباب ونفرفش ونذهب لحفل أم كلثوم وبعدها نرجع البيت ولم ننفق أكثر من 45 قرشا.

ويصرح أن أم كلثوم كانت لديها النية لتقديم "أوبرا" عن إحدى رواياته الفرعونية، فأهداها رواية "رادوبيس"، وكانت تفكر في أن يغني أمامها محمد قنديل. ولكنها شُغلت في موضوعات أخرى، ثم رحلت في 3 فبراير/شباك عام 1975.

وعندما أراد صلاح جاهين في عام 1961 الاحتفال بعيد ميلاد نجيب محفوظ الخمسين، قال لمحمد حسنين هيكل: خصصْ لنا ركنًا في الأهرام نحتفل فيه بعيد ميلاد الأستاذ نجيب .. كازينو قصر النيل ضاق علينا. فقال هيكل لصلاح: نحن (أي الأهرام) سنحتفل بالأستاذ.

لم يصدق محفوظ نفسه عندما أحضر له هيكل خصيصا، كوكب الشرق أم كلثوم والموسيقار محمد عبدالوهاب والفنانة فاتن حمامة وغيرهم. ويعترف أن أجمل ما في تلك الليلة هو حضور أم كلثوم. جاءت له  مخصوص لتغني في ذكرى يوم مولده. وكانت المرة الأولى التي يصافح فيها محفوظ يد الفن في كفِّ أم كلثوم.

ويتذكر نجيب محفوظ أنه كان يذهب إلى حفلاتها (كسمّيع) قديم مفتون بفنها، ويشتري تذاكر الحضور، ويجلس وسط المستمعين. ولم يغير مقعده في حفلاتها طوال حياته.

وفي رواية "السراب"؛ نستمع إلى من يصيح على ملأ من الناس: "أم كلثوم هي الشيء الوحيد الذي يستحق الإعجاب والتقدير في هذا البلد". بينما في رواية "ميرامار" قال: ليلة أم كلثوم متوجة حتى في بنسيون ميرامار، فقد كانت ميريانا تحب أم كلثوم كالآخرين. وهمس طلبة مرزوق في أذن حسني علام: من نعمة الله أنهم لم يصادروا أذني.

في ليلة الاحتفال بجريدة الأهرام، قالت أم كلثوم في تلك الليلة كلمة قصيرة: لقد أسعدني نجيب محفوظ برواياته وقصصه، وأرجو أن يُسعد في خمسين عاما قادمة.

اهتزَّ محفوظ وانتقض يرد على أم كلثوم بصوت هادئ مرتجف قائلا: إذا كانت كتاباتي قد أسعدتك أم كلثوم، فماذا يستطيع إنسان أن يفعل إزاء إحساسه بأنه أسعد مصدر سعادته. غير أنه لم يقل لها إنه سمى إحدى بنتيه على اسمها "أم كلثوم"، والأخرى "فاطمة" على اسم فيلمها، واسم أمه التي تجاوز عمرها المائة عام وقتها (وقد وتوفيت إلى رحمة الله عام 1968).

ويرى محفوظ أن تمثيل أم كلثوم في السينما، أحسن من تمثيل عبدالوهاب، لذا كان يدخل أفلام عبدالوهاب مرة واحدة، وأفلام أم كلثوم مرتين.

ويتذكر محفوظ أنه أثناء عودته من الإسكندرية مع العائلة بالتاكسي فتح السائق الراديو، وهم يصفون جنازة أم كلثوم، فبكى وبكت الأسرة كلها.

كان في الماضي حين يصحو بعد الظهر يستمع إلى إحدى أغنيات أم كلثوم وهو يتمشى في صالة البيت، ثم يجلس بعد ذلك بغرفة المكتب ليكتب.

ويتذكر أنه قبل أن يستمع إليها جيدا، كاد يتشاجر مع أحد الأصدقاء لمَّا قال إن فيه مطربة جديدة اسمها أم كلثوم، صوتها أجمل من منيرة المهدية، وعندما سمعها وقع في غرام صوتها. حسنُ صوتها وجماله بصورة لا تجدها في أي حنجرة أخرى. كان يحرص على حضور حفلاتها منذ كانت تغني كل خميس بتياترو "الماجستيك"، ويجلس في الصف الرابع.

ولما ظهرت الإذاعة الحكومية، كان لأم كلثوم مواعيد إذاعة في الراديو تتضمن وصلتين كل يوم اثنين وخميس لمدة نصف ساعة. فكتب لها خطابًا (من مجهول) يقول لها فيه: "عزّزي نفسك ولا تكرري الغناء كثيرا". ثم أصبحت حفلاتها شهرية. ولم يتوقف عن حضورها إلا حينما ازدحمت القاهرة، فأصبح يسمعها في الإذاعة مع الأصدقاء في سهرة "الحرافيش" وكلهم من خيرة السميعة.

يقول محفوظ عن أم كلثوم: إنها ليست نبوغًا في الصوت فحسب، ولكن في الشخصية أيضا، كيانها أكبر من مجرد مطربة، هي أشبه بالشخصيات السياسية المهمة. فقد ساعدتْ بصوتها على توحيد العرب، وهذه مسألة لم يكن عليها خلاف.

ويضيف: أم كلثوم لم تكن ملحنة ولا موسيقية، لذلك يجب أن نتكلم عنها مع فئة المؤديات. غاية ما في الأمر أنها حنجرة كبرت أكبر من اللازم – أشبه ما تكون بالعضلات الخارقة – حتى سيطرت على الألحان والملحنين، فكانوا يقدمون لها ألحانًا يعلمون أنهم لا يستطيعون تقديمها لغيرها، وهكذا قدمتْ ألوانا شديدة الاختلاف. فحين تغني لزكريا أحمد يخيل إليك أنها كلاسيكية، وحين تغني لمحمد القصبجي يخيل إليك أن فيها عرقًا تركيًّا، والسنباطي له لونه وطابعه معها، وهكذا.

ويتذكر مقالا كتبه عنها في جريدة "الأيام" في 21 ديسمبر عام 1943 قال فيه: "وما من جمود مثل أن تقارن أي صوت من الأصوات المصرية بهذا الصوت المتعالي، فقل في غناء أسمهان، وليلى مراد، ونور الهدى، ما تشاء إلا أن تقارنه بصوت أم كلثوم فتضره من حيث أردت أن تنفعه، وتهينه من حيث أردت أن تكرمه، وتمرغه في التراب، وقد أردت أن تسمو به للسماء".

ويرى أن "الأطلال" من روائعها، ولولاها ما عرف أحد الشاعر إبراهيم ناجي.

ويتذكر محفوظ أنه التقى مرة الشاعر أحمد شفيق كامل - الذي كتب "أنت عمري" - بناء على طلبه، فجاء مصطحبا كاميرته الخاصة لالتقاط الصور التذكارية، واعترف بأنه معجب بعبدالوهاب أكثر من أم كلثوم. أوضح أن أغنية "أنت عمري" كان سيغنيها عبدالوهاب، وعندما أبدى عبدالناصر رغبته في عمل مشترك يجمع بين أم كلثوم وعبدالوهاب، رشح عبدالوهاب "أنت عمري" لتغنيها أم كلثوم بدلا منه.

لم يكن يتمنى أحمد شفيق كامل هذا الأمر، لأن الأغنية لو لم يكتب لها النجاح فسيكون هو الضحية، وسينسب إليه الفشل. ولكن نجحت الأغنية واعترفت أم كلثوم بأن "الكلمات" هي سر نجاح الأغنية التي ارتفع معها توزيع شرائطها مقارنة بأغانيها الأخرى. وأوضح العقاد – قبل وفاته - أن الكلمات لا تقل عن مستوى اللحن والأداء، وأن الألفاظ التي طلبت أم كلثوم تغييرها كانت إلى الأجمل والأحسن.

قال محفوظ لأحمد شفيق كامل إنني ظللت أستمع يوميًّا لأم كلثوم إلى أن ضعف سمعي تدريجيا منذ العدوان الثلاثي عام 1956 فذهبتُ إلى عيادة أنور المفتى، وركبت سماعة في أذني اليسرى، ووصلني ذات يوم صوت "جعير" فسألت عنه، فقيل لي: أغنية لأم كلثوم.

وفي حواراته الصحفية، يقول نجيب محفوظ لمندوب جريدة "الدستور الأردنية (في عددها الصادر بتاريخ 2 أبريل/نيسان 1976): "إن أم كلثوم فلتة فنية من فلتات الزمن من الصعب تعويضها". ويقول لعمرو عبدالسميع في مجلة "فيديو" (التي كانت تصدر بالكويت في عددها 14 الصادر بتاريخ 24 أكتوبر 1984): "بعد وفاة أم كلثوم، لا أستطيع أن أكمل سماع أغنية، الأغاني كلها (كلشنكان)".

وفي حواره مع الكابتن محمود الخطيب (مجلة الطليعة يوليو/حزيران 1977) ينفي محفوظ أن الكرة وأم كلثوم كانتا من أسباب هزيمة 1967، ويقول: هذه سخافة، ولا أساس لذلك من الصحة. طيب ما كان فيه كورة أيام حرب أكتوبر المجيدة. أسباب الهزيمة معروفة. وعيب نلزقها في الكورة وأم كلثوم. الرياضة قوة ونشاط. وانجلترا في عز مجدها السياسي كانت مجنونة كورة.