أنت على مرمى السؤال!

الغرام بهواة الكتب يصل إلى حد الاكتفاء بتأمل مظهر الأغلفة المرصوصة في مكتابتهم دون الاغتراف من المضمون وهذا مالا يعجبني أبداً لأنَّه نوع من هوسٍ مرضي لابُدَّ من تداركه قبل أن يتفاقمَ.

حياةُ الفردِ محدودة والأبدية حلمُ لايتحققُ، مع أنَّ العديدَ من العاملين في مجال  العلوم الدقيقة قد شغلهم هاجس كسر الحلقة الزمنية التي لامحالةَ ستُقفلُ في لحظة ما، إذ أوصى بعضُ من هؤلاء بالاحتفاظ بجثثهم الهامدة عن طريق التجميد  مؤمنين بأنَّ التطور العلمي في المستقبل كفيل بأنَّ يعيدُ إليهم أنفاسَ الحياة.

  إذ بناءً على طلبه تم الاحتفاظ بجثة المفكر الإيراني الأصل فريدون أصفندياري  في إحدى مؤسسات علمية بولاية أيرزونا لأنَّه قد توقع بعودته إلى الحياة في 2030 والمعلومة على ذمة مقال الدكتور أحمد أبو زيد المنشور في مجلة "العربي" الكويتية مع أنَّه لايفصلنا عن قيامة أصفندياري سوى سبع سنوات غير أنَّ هذه الأمنية قد لاتنزلُ من سماء الأحلام إلى أرض الواقع صحيح إن مابلغه العلم من آليات لتجديد الخلايا وزرع الرقائق في الجسد الإنساني يعدُ فتوحات على طريق البحث لاكتشاف إمكانيات وقف آلة الموت لكن يبدو أنها بخلاف غيرها من آلات معروفة بمحدودية الصلاحية لاتتعطل.

أياً يكنِ الأمرُ فإنَّ الغريبَ في شأن الإنسان هو يقينه بأنَّ وجوده مؤقتُ وهو مع ذلك يتصرفُ كأنَّ الخلود من نصيبه.

وما انفكَ يجمعُ من الأشياء مايستهويه ويطمحُ إلى مزيد من الامتلاك دون كللٍ ربما يكونٌ في ذلك سرُ للاستمرار والمضي قدماً في المُغامرة المضنية.

وهذه الرغبةُ للجمع ومُضاعفة ما نمتلكهُ لاتقتصرُ على مجالٍ بعينه بل تمتدُ إلى مختلف أوجه الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية، فصاحبُ المنصب لايريدُ مغادرة كرسيه ويناورُ لتمديد فترته كذلك بالنسبة لصاحب الرأسمال يبحثُ عن الأدوات الجديدة لتراكم طبقات أكثر من سبائك الذهب ورزم من العملات الصعبة طبعاً من يهتمُ بالكتب ليس إستثناء من المعادلة الآنف الذكر.إذ تتمددُ الكتبُ على المساحات.وتزاحمُ القارىء في كل ركنٍ.

إذن فالمغرمُ بِمُفاجآت متاهة المعرفة لايتوقفُ في محطةِ عنوانٍ أو مجموعة من العناوين المُحددة، وهذا لايعني بأنَّه يسافرُ في هذا الدرب واثقاً باختياره دائماً.يعلن محمد آيت حنا في كتابه "مكتباتهم" بأنّه تمنى لو كان وارثاً للأموال بدلاً من الكُتب.

كما صرحَ الكاتبُ المصري الشهير توفيق الحكيم بأنَّه لو قدر له العودة إلى بدايات حياته اختار أن يكون لاعباً.

الزمن الإبداعي 

مايقضُ مضجع المبدع ليس قلقه على نضوب مصادر ملهمة للعمل فحسب بل إدراكه بأنَّه يتحركُ ضمن بعد زمني مُحدد وعنده هاجس  الوصول  إلى مرحلة لا توازي فيها طاقته الإبداعية مع رغبته في الحفر بتربة الكتابة وبالتالي يقع في مطب التكرار طبعا هذا مقتل للكاتب  وهو بهذا الموقف يكون تماماً مثل اللاعبِ الذي نفد رصيده من المهارة والرشاقة غير أنَّه يواصل الحضور في المستطيل الأخضر متوهماَ بأن ماحققه سابقاً يشفع لأدائه الباهت.وفي الحقيقة يصبحُ عالةً على الفريق بوضعيته الجديدة  قد لايفصل العمر البايلوجي عن العمر الإبداعي لدى عدد من الكتاب يقول نجيب محفوظ  "مغادرة رغبة الكتابة هي يوم موتي" إذ فكر فعليا في الانتحار عندما توقف عن الكتابة بعد ثلاثيته ولم يستغرب أبداً حين قرأ خبر انتحار أرنست همنغواي ملتمساً له العذر لأنَّ الحياة بالنسبة إلى مؤلف "وداعا للسلاح" تعادل الكتابة والإبداع.

زيادة على ماسبق فإنَّ الشعور بالحسرة يزداد لدى المبدع عندما يدركُ بأنَّ هناك عناوينَ كثيرة تنتظرهُ ولايمهله الوقت بقراءتها هذا ما أرقَ دوستويفسكي، كذلك كانت الكاتبة الفرنسية فرانسواز ساغان تتأسفُ لأنَّ حياتها تنتهي قبل أن يُشفى غليلها بقراءة كتبٍ راودها الالتذاذ باكتشاف عوالمها.

والحال هذه فمن المشروع التساؤل عن الدافع لاقتناء العناوين والبحث عن المكان لمزيد من الكُتب؟ ومن الأسئلة التي تواجه أي قارىء من الشخص الذي  يصادف عالمه المكتظ بالكتب هي هل قرأتَ كل هذه الكتب؟ من المناسب هنا الإشارة إلى تجربتي الشخصية المتواضعة.بينما كنت قادما من شارع المتنبي الذي لايمكن أن تمرَّ به دون أن تقتني من مكتباته المزينة بالعناوين النادرة وبسطياته المكنونة بالتحف فهذا المكان معلم حضاري يمثلُ القوة الناعمة للعاصمة بغداد.

تعرفتُ على شخصٍ بعد أن دار الحديثُ عن الأوضاع وترحيبه الحار بالزائر سألني مشيرا إلى مقتنياتي هل يمكنك أن تقرأَ كل ما أخذته من الكتب؟ هنا لابُدَّ أن يكون الجواب واضحاً ومقنعاً لايليقُ بك الهروب من خلال كلمات فضفاضة.

قلتُ ياسيدي الكتب حالها حال الطعام كما أنّك تقدمُ أنواعاً شتى من الأطعمة لضيفك وليس بالضرورة أنَّ الأخير يأكلُ كل ماهو موجود على المائدة كذلك بالنسبة للكتب نجمعُ أشكالاً وأنواعاً من الإصدارات والعناوين وقد نقرأُ قسماً منها.طبعاً أنا ذكرتُ هذا المثال التوضيحي مُستفيداً مما يشيرُ إليه رسول حمزاتوف في "بلدي" وهو يعتقدُ بأنَّ الشاعر ينشر آلاف كلمات غير أنَّ مايتلهفُ إليه ذوق القارىء ليس سوى بيت أو بيتين من مجاميعه الشعرية كما الضيفُ الذي لايتذوق من الأطعمة المتناولة على مائدته إلامقداراً محدوداً.

طبعاً يصلُ الغرام بهواة الكتب  إلى حد الاكتفاء بتأمل مظهر الأغلفة المرصوصة في مكتابتهم دون الاغتراف من المضمون وهذا مالا يعجبني أبداً لأنَّه نوع من هوسٍ مرضي لابُدَّ من تداركه قبل أن يتفاقمَ.

ومع الأسف أن القارىء لن تكون مكتبته منسقةً على الأغلب بل التناثر جزء من فضاء القراءات.يقول نجيب محفوظ بأنَّه كثيراً ما اضطر لشراء كتاب مع أنَّه كان متأكداً بأنَّه متوفر لديه لكن العثور عليه يستغرق وقتاً.

بالطبع أنَّ القراءة المتنوعة مشوقة وتزيدُ العقل مرونةً والرؤية منفتحةً لكن يجب الاعتراف بأنَّه من النادر في زمننا مصادفة من يكون بمستوى مصطفى محمود العقاد الذي كانت مكتبته هي بيته وهو قد كرس رفوفاً للآداب والعلوم والفلسفة أو نجدُ قارئاً يضاهي عمدة القراء "علي حسين" صاحب "دعونا نتفلسف" وهو قد إضطرَّ إلى استئجار شقة لكتبه  .إذن من الضروري تحديد مجال القراءة وهذا ليس تخصصاً بل محاولة لاكتشاف مايناسبُ المزاج ويخدمُ الخط الأساسي في التوجهات الفكرية وما لايحتملُ النقاش بشأنهِ أنَّ الخروج عن الطريق واستطلاع طرق جديدة من مواصفات لافتة للاشتغال المعرفي.

الخفة

يتطلبُ الإبداعُ بأشكالهِ المتعددة وجود الخفةِ كما أنَّ اللاعبُ يكتسبُ حضوراً أجملَ بخفته في المضمار والراقصُ يكونُ جذاباً بخفة حركاته في الحلبة والفنان يتصالحُ مع المساحات الشاخصة بوجهه بخفته في رش الألوان كذلك يكونُ القارىءُ أكثرَ استيعاباً لعناوينه المُفضلة إذا تمكن من تحديد المنطقة التي يتقاطع فيها الأفكار الهاجعة في طيات الكتب مع مايمكنُ الحصولَ عليه من صميم التجربة الحياتية وتلقف الأفكار المؤثرة من الشارع بخفة.

بما أنَّ موضوع الحديث هو مكونات المكتبة فيجدرُ بنا الالتفات إلى ماكانت تضمهُ مكتبة سبينوزا إذ يشيرُ ستيفن نادلر إلى وجود أعمال بلغاتٍ لاتينية وإسبانية وفرنسية إضافة إلى رسائل للفلاسفة الحديثيين مثل ديكارت وهوبز في مكتبته وكان يمتلكُ المختصر لإبكتيتوس ومراسلات شيشيرون والمتأمل لاختيارات سبينوزا واهتمامه بمؤلفات الرواقيين يدرك بأنَّ متابعاتهِ توافقُ مع منحى حياته ومشروعه الفكري.

أما نيتشه فوظيفته تتمثل ُ في مفاجئتك بمواقفه الغريبة وآرائه غير التقليدية فهو بدلاً من التأسف على عدم قدرته على القراءة نتيجة ضعف البصر كان يعتقدُ بأنه مدينُ لعينيه لأنهما قدحررتاه من الكتاب معتبراَ ذلك أعظم خدمةٍ قد أسداها له المرض والأغرب من ذلك أن صاحب "هكذا تكلم زرادشت" قد صرح بأنَّ عبقريته تكمنُ في فتحات أنفه.ونحن بصدد غرائب عالم نيتشه لابدَّ من الإشارة إلى اصطدامه بكتاب "العالم إرادة وفكرةً"يقولُ ستيفان زفايغ في مؤلفه "نيتشه وحديث عن فلسفة الروح" بأنَّ الفيلسوف المطبوع بنفس ديناميتي لم يتمكن من أن يخلد إلى النوم طيلة عشرة أيام بعد قراءته لعصارة أفكار آرثر شوبنهاور.

إذن ثمة كتب تعصف بكيانك ربما الغاية من كل ماتجمعه من الكتب وقراءتها ليست إلا بحثاً عن عنوانٍ مزلزل والمحظوظ هو من يقصر القدر بينه وبين ضالته.

أخيراً يجبُ مصارحتكم  بأن الدافع للكتابة عن هذا الموضوع هو السؤال الذي سمعته مجدداً من صديق قد ساعدنا لترتيب وترميم أجزاء من بيتنا هل قرأت كل هذه الكتب؟!