'أن تبقى الشمس حية': سيمفونية إنسانية على أعتاب الثورة الإيرانية
تُعد رواية" أن تبقى الشمس حية" للكاتبة والسينمائية الإيرانية الأميركية ربيعة غفاري عملًا أدبيًا بالغ الأهمية، لا يقتصر تأثيره على جمالية السرد وعمق الشخصيات فحسب، بل يمتد ليشمل قدرته على التقاط لحظة تاريخية مفصلية في تاريخ إيران، فعلى الرغم من أنها تركز بشكل أساسي على تصوير الحياة الإيرانية قبل الثورة الإسلامية وتأثير التحولات السياسية على عائلة واحدة، إلا أنها تتضمن الكثير من الانتقادات الضمنية للنظام الإيراني الصاعد آنذاك. وذلك من خلال عدسة إنسانية حميمة تصور بدقة عالما يوشك على التغير، حيث تتشابك المصائر الفردية مع رياح التغيير السياسي العاصفة.
تدور أحداث الرواية التي ترجمها علي عبد الأمير صالح وصدرت عن دار المدى، في عام 1979، في مدينة نيسابور الهادئة شمال شرق إيران، قبل أشهر قليلة من استقرار دعائم الثورة الإسلامية. تتخذ الرواية من بستان عائلي قديم، يمتلكه القاضي المتقاعد ميرزا/ أكبر وزوجته المحبة "بيبي خانوم"، مسرحًا لأحداثها. هذا البستان ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو عالم قائم بذاته، يضم أجيالًا مختلفة من العائلة، لكل فرد منهم عالمه الداخلي الخاص، وآماله وأحلامه وصراعاته التي تعكس بدورها التحولات الاجتماعية والسياسية التي بدأت تلوح في الأفق.
تنطلق الرواية من زاوية شارع باريسي ـ بيلفيل الرئيس ـ مزدحم في يوم كسوف الشمس عام 2012 وهو أول كسوف مرئي تشهده المدينة منذ ثلاثة وثلاثين عاما، حيث يسترجع شازديبور - وهو مغترب إيراني مسن في باريس - ذكرى يوم قبل 30 عامًا عندما "ابتلع القمر الشمس بتؤدة" في سهول مدينة نبسابور الذهبية، فيما يبدو الآن وكأنه عالم بديل. في ذلك اليوم، في بستان "مردمد" الواقع في مدينة نيسابور الذي تفوح منه رائحة أزهار التفاح، والمملوك لبيبي خانوم وزوجها، القاضي المتقاعد ميرزا، تجتمع العائلة لتناول أول غداء ربيعي لها. ولكن حتى وهم يتناولون الطعام معًا، تكمن أسرار ونزاعات عائلية تحت السطح. يناقش ميرزا حدود العدالة الحكومية وقضايا الملكية والمنزلة الاجتماعية والأسرة مع شقيقه الملا المتشدد "حبيب الله"، وتصرخ قمر، ابنة أخت بيبي خانوم، في وجه زوجها الخياط الوديع، محمد آغا، مخفية وراء ذلك صراعًا زوجيًا خبيثًا؛ وتتسلل ابنتهما نسرين بين أشجار الكرز في لقاء غرامي مع حبيبها مجيد، ابن شازديبور/ ابن شقيقة القاضي والملا. وعلى الرغم من غياب جمشيد، شقيق مجيد، المدمن على الأفيون، إلا أن حضوره كان محسوسا.
عندما ينشب صراع مميت بين شابين في ساحة المدينة ويؤجج الخلاف المرير بين فصيل مؤيد للإسلام ومعارضيه، تنجر العائلة إلى الاضطرابات التي يثيرها ذلك. بينما ينحاز الملا وجمشيد إلى جانب "الشهيد" الذي قتل خصمه "النخبوي"، يقع مجيد - الطالب الجامعي الجديد والمتشوق للمساعدة في تشكيل مستقبل البلاد - في فخ مميت نصبته جماعة سياسية شريرة..
تنجح غفاري ببراعة في رسم ملامح هذه العائلة المتشابكة، مقدمة لنا مجموعة من الشخصيات الحية التي تنبض بالعواطف والتناقضات الإنسانية. فهناك الزوجان المسنان ـ بيبي ـ خانوم والقاضي ميرزا ـ يحاولان الحفاظ على تماسك العائلة في وجه الضبابية القادمة، خاصة أن القاضي ميرزا على الرغم من أنه ليس دائمًا في مركز الأحداث الدرامية، إلا أن وجوده يمثل صوتًا للعقلانية والتفكير الهادئ في خضم الاضطرابات السياسية والاجتماعية المتصاعدة. إنه شخصية مثقفة ومنعزلة إلى حد ما، يراقب الأحداث وتطورات عائلته من بعيد، وغالبًا ما ينغمس في عالمه الخاص من الكتب والأفكار. وهناك الأبناء والأحفاد الذين تتأثر حياتهم بطرق مختلفة بالتحولات الوشيكة. الابنة قمر التي تحلم بالانطلاق نحو عالم المسرح والفن، والابن جمشيد الذي يجد ملاذه في عالم الأفيون هروبا من واقع متناقض يزداد تعقيدًا، والأب شازديبور الأرمل الذي يتوق إلى حياة جديدة في أوروبا بعيدًا عن وطنه الذي يتغير بسرعة. كما تُسلط الرواية الضوء على العلاقات الزوجية المتوترة بين نسرين ومحمد التي تبدأ في التصدع تحت ضغط الظروف المتغيرة، وعلى العلاقات الخفية بين مجيد وقمر التي تتشكل في ظل هذه الأجواء المشحونة.
تصور غفاري الحياة اليومية في إيران قبل الثورة بتفاصيل حميمية. حيث تنقلنا إلى قلب هذا العالم من خلال وصف دقيق للوجبات العائلية التي تُقام على الشرفة تحت ظلال الأشجار، والنزاعات الصغيرة بين الأقارب التي تحمل في طياتها بذور الأزمة الوطنية الأكبر، والعادات والتقاليد الفارسية الأصيلة التي تشكل نسيج الحياة اليومية. نشعر برائحة الياسمين المتسلق على الجدران، ونستمع إلى همسات الأحاديث السرية، ونشاهد تفاصيل الحياة البسيطة التي توشك على الاختفاء تحت وطأة التغيير.
أحد أبرز جوانب الرواية هو قدرة غفاري على دمج قصص شخصياتها بشبكة الأحداث السياسية المتصاعدة بمهارة فائقة. فبينما تتفتح أزهار البستان وتثمر الأشجار في دورة الحياة الطبيعية، تتصاعد وتيرة المظاهرات والعنف في شوارع العاصمة طهران والمدن الكبرى. هذا التداخل بين الخاص والعام يتجلى بشكل رمزي في الحدث الفلكي النادر الذي يلوح في الأفق، وهو كسوف الشمس الذي يتزامن مع أحد الأيام المقدسة في التقويم الديني. هذا الكسوف، الذي يُنظر إليه بتفسيرات مختلفة تتراوح بين العلامة الكونية والرمز السياسي، يصبح استعارة لتفكك العائلة والبلاد على حد سواء.
وعلى الرغم من أن غفاري تركز بشكل أساسي على تصوير الحياة الإيرانية قبل الثورة الإسلامية وتأثير التحولات السياسية على عائلة واحدة، إلا أنها تتضمن بعض الانتقادات الضمنية للنظام الإيراني الصاعد آنذاك، وذلك من خلال عدة جوانب: أولا تصوير صعود الأصولية الدينية من تقديمها لشخصية "حبيب"، وهو رجل دين يمثل التيار الأصولي المتصاعد.
ويتضح ذلك من خلال آرائه المتعصبة ودعوته إلى "التطهير الديني"، الأمر الذي يكشف كيف بدأت هذه الأيديولوجية في التأثير على المجتمع وتفتيت النسيج الاجتماعي. الانتقاد هنا ليس مباشرًا ولكنه يلمح إلى المخاطر الكامنة في هذا الفكر. ثانيا إبراز القمع الفكري، فالرواية تتطرق إلى أجواء القمع المتزايد للحريات الفكرية والفنية. على سبيل المثال، يُذكر اعتقال مدرس الأدب بسبب تدريسه مسرحية "بستان الكرز" لتشيخوف. هذا الحدث الصغير ذو دلالة عميقة، كونه يوضح كيف بدأت السلطة الجديدة في تقييد حرية التعبير وفرض رقابة على الفنون والآداب، مما ينذر ببداية حقبة جديدة من القيود.. ثالثا تأثير الثورة على العلاقات الإنسانية: من خلال تفكك الروابط الأسرية وتصاعد التوترات بين الشخصيات بسبب اختلاف وجهات النظر حول الثورة، وتُظهر الرواية كيف يمكن للأيديولوجيات المتطرفة أن تؤدي إلى انقسام المجتمع وتصدع العلاقات الإنسانية. هذا يمكن اعتباره نقدًا ضمنيًا للطريقة التي فرضت بها الثورة نفسها وأثرت على حياة الناس. يضاف إلى ذلك أن أجواء الرواية يسودها جو من الترقب والخوف من المستقبل المجهول الذي تحمله الثورة. هذا الشعور العام بعدم الأمان والقلق يعكس ضمنيًا رفضًا لحالة عدم الاستقرار التي أحدثها التغيير السياسي الجذري.
لكن الملاحظ أن غفاري تقدم هذه الانتقادات بشكل غير مباشر، من خلال التركيز على التجارب الإنسانية وتأثير الأحداث السياسية على حياة الأفراد. إنها ليست رواية دعائية صريحة، بل عمل أدبي يستكشف فترة تاريخية مضطربة من خلال عيون شخصياتها. ومع ذلك، فإن تصويرها لتصاعد الأصولية والقمع وتأثير الثورة على العلاقات الإنسانية يحمل في طياته نقدًا ضمنيًا للاتجاه الذي كانت تسير فيه إيران آنذاك.
من زاوية أخرى نرى في الرواية "المنفى"، وذلك من خلال شازديبور الذي يمثل صوتًا للضياع والحنين، ويطرح تساؤلات حول معنى الانتماء والهوية عندما يُقتلع المرء من جذوره، إنه يعيش في باريس عام 2012، والذي يكسب رزقه من كتابة أسماء السياح بالخط الفارسي. (جارته في الشارع، مدام وو، تفعل الشيء نفسه بالخط الصيني) يبدو أن الطلب على عمله آخذ في التضاؤل، خاصة في ذلك اليوم الذي يبيع فيه الغجر نظارات شمسية لمشاهدة كسوف الشمس المتوقع حدوثه. لقد كان مشردًا مثله مثل اللاجئين الآخرين، ومجهولًا مثلهم ، كان أشبه بخيط واحد غير مرئي في سجادة منسوجة بشكل عشوائي.
إن شازديبور يمثل رمزا للمنفيين الإيرانيين وغيرهم، الذين نُفوا من وطنهم، والذين يشتاقون إلى وطنهم والذين لا يستطيعون حقًا الاندماج في البلد الذي يعيشون فيه الآن، مهما كانت مزاياه وتقاليده الديمقراطية. وبالفعل، في حين أن تطور الثورة، وكيف تفاعل معها مختلف الناس، وبشاعة نظام الشاه والنظام الجديد والمزيج المثير للاهتمام من الشخصيات في العائلات التي نتابع قصتها كلها رائعة، وتجعل هذا الكتاب في حد ذاته قراءة جيدة حقًا، يجب أن أعترف بعاطفة معينة تجاه شازدهبور، الرجل الذي لم يندمج في إيران ما قبل الثورة وبالتأكيد لا يندمج في باريس المعاصرة، روح ضائعة إن شئت، أليست كل الأدبيات العظيمة تدور بشكل أو بآخر حول الأرواح الضائعة؟