إعادة اكتشاف القطارات


بلاد من دون قطارات لا تعرف نفسها، تعيش مدنها في اغتراب مكاني ويضيع أناسها في مدنهم التي ولدوا فيها! فكم من مدننا العربية لا يسمع سكانها هدير القطارات؟ الإجابة أكثر مأساوية من السؤال.

نحن نغني للقطارات بألم وحنين فائق، لكننا لا نعمل بجد من أجل أعادة اكتشافها، قطار الشرق السريع كان أسطورة ملهمة جعلت أجاثا كريستي تنمي به خيالها، عندما يمر عبر أراضي منطقتنا، لكنه لسوء الحظ، لا يوجد من بين الحكومات من يريد إحياء تلك الأسطورة الفارعة التي أرخت لآمال وأحلام أجيال وعشاق وسياسيين وأناس بسطاء.

صديقي الإنكليزي إيان دخل عقده الثمانيني ومازال يحتفظ بتذكرة قطار اقتناها في خمسينات القرن الماضي من محطة فكتوريا وسط لندن حتى محطة شرقي بغداد في العلاوي، فأي قيمة شعرية قبل أن تكون تاريخية لتلك التذكرة؟

السفر بالقطار أشبه بأغنية مفتوحة على الزمان، لكنه في حال محطاتنا العربية اليوم “بهذلة” و”ضيق خلق” وخطر محفوف بالموت، لا يمكن أن ننسى حوادث القطارات في مصر مثلا، أو السطو المسلح على القطارات في العراق! هل فكر القاص محمد خضير في ذلك مثلا عندما كتب “قطارات ليلية” وهل انتابت الشاعر مظفر النواب مشاعر أن كان سيفسد ولع العاشق حمد بالريل، عندما ينقض عليه اللصوص!

لا نأمل أن يصل الحال بقطاراتنا كما يحدث في الهند عندما يتسلق مئات المسافرين الفقراء سطح القطار ويتعلقون بنوافذه وأبوابه في مشهد يحول الماكنة السائرة إلى كتلة بشرية مجازفة تصارع الموت!!

متى يحدث أن يتحول القطار في مدننا العربية إلى مقابل لصون الكرامات عند السفر، أن تسافر في أريحية وهدوء وأمان طموح أي إنسان، ليعود مستذكرا رحلة بين المدن والحقول، كيف لنا أن نفسر أن بلادا مترامية المدن من ضفاف المتوسط حتى الصحراء الشاسعة مثل ليبيا لا يمر بها قطار واحد؟ متى يسمح لمدننا العربية إعادة اكتشاف القطارات بوصفها وسيلة نقل متحضرة وآمنة تربط المسافات المتباعدة؟

بلاد من دون قطارات لا تعرف نفسها، تعيش مدنها في اغتراب مكاني ويضيع أناسها في مدنهم التي ولدوا فيها! فكم من مدننا العربية لا يسمع سكانها هدير القطارات؟ الإجابة أكثر مأساوية من السؤال.

غالبية مدننا العربية ضائعة بلا قطارات، لأن القطارات لا تضل طريقها، وأن حدث وأن ضل القطار طريقه يصبح الأمر حادثة تاريخية، كما حدث قبل أيام عندما انتهى الأمر بركاب قطار إلى منطقة ساوث يوركشاير في شمال بريطانيا بعد أن ضل السائق الطريق من نيوكاسل في (الشمال الشرقي) إلى مدينة ريدينغ في (الجنوب).

أحد المسافرين قال “من كان يعلم أن هذا يمكن أن يحصل الآن”. وعبّر آخر عن دهشته بالقول “أنا حقا لا أعرف أن القطارات يمكن أن تضيع!”. ولأن القطارات لا يمكن أن تضيع فإن المدن من دونها تبقى ضائعة، كبعض مدننا العربية!