السأم أطاح بهم!


مدراء الشركات العملاقة سئموا من إدارة إمبراطورياتهم المثقلة بالجدل السياسي والمشكلات التي يصعب إصلاحها والاتهامات بضلوعهم في نشر الأخبار المضللة وخطابات الكراهية.
دورسي مثل زوكربيرغ يجلس طويلا في اجتماعات مملة، يحضر مرغما إلى واشنطن حتى يتمكن السياسيون من الصراخ في وجهه، وعليه أن يدافع من دون أن يمتلك أي قدرة على الهجوم

لا يمكن النظر إلى جاك دورسي الذي ترك منصبه الأسبوع الماضي بعد ستة عشر عاما كرئيس تنفيذي لشركة تويتر، بنفس العدسة التحليلية لمارك زوكربيرغ المرشد الأعلى لفيسبوك!

علينا أن نغير العدسة عند النظر إلى الرجلين اللذين يقفان على رأس إمبراطوريتين تكنولوجيتين، تساهمان في تغيير الواقع أكثر بكثير من ربط العالم ببعضه بعضا.

حتى زوكربيرغ نفسه لم يكن ينظر إلى دورسي كمنافس، بعد أن أحاط به أكثر من ثلاثة مليارات مستخدم لفيسبوك وتوابعها، وبعد أن وصلت قيمة الأسهم المالية لهذه الإمبراطورية الرقمية الهائلة إلى تريليون دولار! بينما لم يتجاوز عدد مستخدمي تويتر مئتي مليون بقليل.

كان سيد فيسبوك ينظر إلى شركة تويتر وأعضاء إدارتها على أنهم مجموعة من المغامرين قادوا سيارتهم، لكنها تعطلت بمجرد وصولها إلى منجم ذهب!

زوكربيرغ ذكي بطريقة مذهلة، عندما يستطيع أن يجمع في عقله القدرة التكنولوجية والتسويقية معا، بيد أن غطرسة فيسبوك وضررها على العالم جعل أمنية إصابته بمرض السأم والملل والمغامرة مطلبا أكثر من كونه تمنيًّا للملايين من شعوب العالم.

لكن وقائع القصة تحولت إلى جاك دورسي الذي نظر إليه زوكربيرغ منذ سنوات في مركبته المعطلة في منجم الذهب.

مرض السأم والمغامرة أسهل ما يمكن توقع إصابة الأثرياء به، فقد أصاب من قبل المدير التنفيذي السابق لشركة أمازون جيف بيزوس بعد أن بلغت ثروته أكثر من مئتي مليار دولار، دفع عشق بيزوس للتجوال إلى التنحي عن أمازون هذا العام وتحقيق حلم طفولته في الذهاب إلى الفضاء.

نفس المرض يسري في مسامات الهواء المحيطة بإيلون ماسك وهو أثرى أثرياء العالم، لذلك تراه يقود تجارب تكنولوجية أشبه بعبث الأطفال ورغبتهم في تحقيق أمور غير معقولة. مؤسسا غوغل، لاري بيج وسيرجي برين، استقالا من منصبهما في 2019 ومنذ ذلك الحين قادا الاستثمار في مشاريع مستقبلية مثل المناطيد والسيارات الطائرة.

الرئيس التنفيذي لتويتر أصيب بسأم الأثرياء بمجرد وصول ثروته إلى 11 مليار دولار. أطال لحيته منذ وقت وصار أشبه بالمتصوفين القادمين من كهوف التاريخ إلى وادي السيليكون وكتبت تغريدته غير المفاجئة بلغة كأنها مستهل رواية قصيرة “لست متأكدا إذا كان قد سمع أحد بهذا، أنا استقلت من تويتر”. مع أن دورسي نفسه عندما عاد في عام 2015 إلى تويتر كرئيس تنفيذي مؤقت للشركة، أبدى إعجابه بحماسة شبه دينية، واصفًا إياها بأنها “أقرب شيء لدينا إلى الوعي العالمي”.

دورسي مهووس بالعملات المشفرة والويب اللامركزي بنوع من الحماس، لكن دعونا نترقب ما يعد لنا في عالم صار يثير شغف الأطفال للمقامرة بهذه العملات، إنها تفتح لهم طريقا جديدا يختلف كليا عن إدمان مواقع التواصل، والأهم ما فيه المال الذي يأتيهم بغير جهد مبذول سوى تعلم لعبة العملات المشفرة والانطلاق في مهام تبدو وكأنها مثالية لتغيير العالم.

هؤلاء الأثرياء معرضون بالضرورة إلى السأم من إدارة إمبراطورياتهم التكنولوجية العملاقة، وبغض النظر عن الضغوط التي تعرض لها دورسي من مجلس إدارة الشركة، لكن ثمة ما يجعلنا كمستخدمين نتأمل الثراء الذي نغدقه على الشركات التكنولوجية بحماسنا منقطع النظير، مع أننا نسير مغمضي الأعين في ليلة ظلماء في الاستخدام المطرد للتكنولوجيا. ذلك الثراء الذي جعلهم يصابون بالسأم والملل إلى درجة القيام بثورة ضد نعيم أنفسهم، والقلق من البقاء في وظائفهم، لذلك يبحثون عن المغامرة، أو وفق قول أحد الداعمين للعملات المشفرة إن تكنولوجيا وادي السيليكون هي الحرس القديم، والعملات المشفرة هي من ستحيلهم على التقاعد.

ألا يعني ذلك وفق المحلل التكنولوجي بيتر كافكا أن موجة المغادرين من المدراء التنفيذيين للشركات العملاقة تعكس جزئيا حقيقة أن عمالقة وادي السيليكون شركات تضخمت وصارت مربحة ولم تعد بحاجة إلى مؤسسين رؤيويين، وتكتفي بمدراء أكفاء يمكنهم الاحتفاظ بالمال وزيادة تراكمه، تماما مثل آلة طباعة عملها تجنب أي أخطاء كارثية.

مع ذلك تنحي دورسي يكشف لنا أيضا مدى ضآلة السعادة التي يتمتع بها مدراء الشركات العملاقة، لقد سئموا من إدارة إمبراطورياتهم المثقلة بشكل متزايد بالجدل السياسي والمشكلات التي يصعب إصلاحها والاتهامات السياسية والشعبية بضلوعهم في نشر الأخبار المضللة وخطابات الكراهية وقتل الحقائق، لذلك سيكون من الأسهل لهم إيجاد الطريق الآمن للخروج ليكونوا أكثر حماسا لبناء مشاريع جديدة بدلاً من إصلاح القديمة. كذلك يتركون تلك الإمبراطوريات للآخرين ويتجهون بحثا عن آفاق جديدة.

سبق وأن اعترف دورسي، وهو يتحدث في مؤتمر عن العملة المشفرة بيتكوين، بأن لا شيء أكثر أهمية بالنسبة إليه من أن تبقى حياته محافظة على نسقها لتظلّ سعيدة.

مع ذلك فهو وإن دعي إلى البيت الأبيض وحظي باستقبال الرئيس الأميركي بوصفه قوة مؤثرة في صناعة مستقبل المجتمعات، فإنه يعيش وضعا مؤذيا في إدارة منصة للتواصل الاجتماعي تتضخم فيها البيروقراطية، وتلاقي الاتهام المستمر بكونها سببا في إشاعة ما بعد الحقيقة. الشهرة والثراء هنا لا يخففان من وطأة اللوم الذي يلاقيه.

دورسي مثل زوكربيرغ يجلس طويلا في اجتماعات مملة، يحضر مرغما إلى واشنطن حتى يتمكن السياسيون من الصراخ في وجهه، وعليه أن يدافع من دون أن يمتلك أي قدرة على الهجوم.

ومع أن بعض التفسيرات تعزو تنحي دورسي وأقرانه إلى الهروب من المسؤولية والإيحاء بأنهم يطلقون النار على أنفسهم، بينما يقوم المدراء الجدد بتنظيف الفوضى التي أحدثوها في وظائفهم القديمة، إلا أن هذا التفسير ليس ضارا بالنسبة إلينا كمستخدمين ونحن نترقب أن يصاب زوكربيرغ بنفس مرض السأم والمغامرة ويترك فيسبوك وهو يعرض ميتا علينا. انفجار فقاعة فيسبوك قد يعيد للعالم بعض هدوئه من الضجيج المستمر والمتصاعد من منصات التواصل.