إيران بين مد وجزر الأقطاب الدولية ومشاريعها

فهم دور أيران في المنطقة ينبغي ألا يجري بمعزل عن فهم الموقف الدولي.

بعد 40 سنة من ثورة الخميني وما تبعها من بناء الحرس الثوري وفيلق القدس واتباع سياسة تصدير الثورة بذريعة التصدي للغرب في المنطقة وتدمير إسرائيل وتحرير فلسطين، نجد أن الغرب أطبق على المنطقة بفكيه ولم يتم تحرير شبر واحد من فلسطين، فيما ساهمت إيران في تحويل المنطقة إلى مستنقع موبوء بالأحقاد والحروب الأهلية والطائفية. طبعاً، لم تكن إيران العامل الوحيد في ذلك، لكنها بكل تأكيد، كانت أحد أهم عوامل صناعة المستنقع وتغذيته، لدرجة أنه طفح بكافة أشكال الأوبئة في العراق، جراء سياسات أتباعها وأشياعها فيه، الذين تعاملوا مع السلطة كلصوص عابرين لا كساسة محترفين. لذلك أحرق المتظاهرون العراقيون مبنى القنصلية الإيرانية في النجف، بعد أن أحرقوا قبيل أسابيع قليلة قنصليتها في كربلاء، منددين بدورها ومطالبين برحيلها.

تكمن المفارقة هنا، أن الغالبية العظمى من المتظاهرين في العراق هم من الشيعة، كما أن إحراق قنصلياتها تم في أهم مدن الشيعة في العالم، ما يعني فشل إيران في بناء حاضنة لها بين من تعتبرهم أرضية خصبة لمشروعها، بعد أكثر من 16 سنة من هيمنة وكلائها وعصائبها المباشرة على السلطة، التي مكنتهم أميركا منها في أعقاب احتلال العراق عام 2003. وعوض أن تغطي إيران على فشلها الذريع داخلياً وخارجياً باحتضان "الربيع العربي" على اعتباره مدا ثوريا ينسجم مع "توجهاتها"، قامت بتقديم دعم مهول لنظام دموي بشع في سوريا، كما غطت نظاماً سياسياً طائفياً غارقاً في الفساد في لبنان.

لم يكن نجاح ثورة الملالي داخل إيران وتمدد نفوذها في الخارج بعيداً عن تواطؤ قوى الغرب الكبرى معها. فقد كان خلع الشاه واستبداله بنظام الولي الفقيه حاجة ملحة لتلك القوى لبناء جدار يحول دون وصول روسيا الحمراء إلى المياه الدافئة في منطقة الخليج (خزان النفط العالمي)، لا سيما بعد أن نجح الاتحاد السوفياتي في تنصيب نظام عميل له في أفغانستان، قبل أن يجتاح البلد بأكمله لاحقاً. حينها، كانت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على أوجها، وكانت خطة أميركا جاهزة للإيقاع بالدب الروسي وتحجيمه. لذلك قامت المخابرات الأميركية ببناء شبكة علاقات واسعة لمساعدة الحركات المعارضة للنظام الشيوعي التابع لروسيا قبل 6 أشهر من اجتياح الأخيرة لأفغانستان، وذلك حسب ما كتبه مدير الـ(CIA)  السابق روبرت غيتس في مذكراته. كما وقع الرئيس الأميركي حينها جيمي كارتر توجيهاً يخول وكالة المخابرات المركزية الأميركية القيام بحملات دعائية لأجل تثوير الناس ضد الحكومة الشيوعية الموالية لموسكو. وبعد القضاء على الاتحاد السوفياتي، استمرت إيران بدعايتها في تصدير الثورة لتنشر الرعب في قلب منظومة الدول الخليجية، التي ألقت نفسها في حضن أميركا، لتقوم الأخيرة بعملية نهب منظم لها، وما زالت تبتزها وتتحكم بمقدراتها بذريعة حمايتها من ابتلاع إيران لها.

كذلك لا يغيب عن الذهن أن الغرب نفسه احتضن الخميني قبيل وخلال الثورة على نظام الشاه، وأتاح له حرية الحركة والعمل السياسي بشكل مفتوح، حيث قضى الشهور الأخيرة من إقامته في فرنسا مع فريق مرافق له، ليقود الثورة في إيران من إحدى ضواحي باريس، ثم ما لبث أن انتقل منها إلى طهران ليتوج زعيماً أوحد للثورة. وفيما فرّ الشاه خارج البلاد، أربكت أميركا قادة الجيش الإيراني وشلتهم عن الحركة كي يتسنى لثورة الخميني النجاح واستلام السلطة. لاحقاً، عقدت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ريغان اتفاقاً مع إيران، إبان حربها مع العراق، لتزويدها بأسلحة متطورة، عرفت لاحقاً بفضيحة إيران كونترا.

كما قامت أميركا بإسقاط نظام طالبان في أفغانستان ونظام صدام حسين في العراق في 2001 و2003، مع أن كلا منهما خصم لدود لنظام الملالي، فيما تم غض النظر عن تمدد إيران في المنطقة بشكل ملحوظ، لا سيما في العراق وسوريا ولبنان واليمن. كما حالت أميركا نفسها دون قيام إسرائيل بشن هجوم عسكري على مواقع التخصيب النووية في العديد من المناسبات، لدرجة أن 16 جهازاً استخباراتياً أميركيا أعلن في كل من عام 2007 و2010 عدم وجود أي تهديد نووي جدي من قبل إيران، لتسحب بذلك مبررات ضربها. كما شاهدنا في السنوات الأخيرة من إدارة أوباما إصراراً محموماً لإخراج إيران من دائرة الحصار الدولي، انتهى بعقد اتفاق يقضي بإعادة تأهيلها للعب دور جديد يتناسب مع تطورات كثيرة حصلت في المنطقة.

إلا أن الأجندة الأميركية في عهد ترامب اختلفت، وأحدثت قراراته ارتباكاً في الوضع الدولي، كما تماهت سياساته مع إسرائيل إلى أبعد مدى ممكن، فاعترفت إدارته بالقدس موحدة عاصمة لإسرائيل ونقلت سفارة أميركا إليها، وأقرت بضم مرتفعات الجولان لكيان الاحتلال وأجازت بناء المستعمرات في الضفة الغربية. كذلك ألغت الاتفاق النووي مع إيران، وأعادت فرض الحصار عليها، وطالبتها بشروط جديدة منها تقليص ترسانتها من الأسلحة الصاروخية التي تهدد أمن إسرائيل والتوقف عن تمددها في المنطقة – أي الانكفاء على ذاتها. فهل تستجيب إيران لما هو مطلوب منها، أم أنها تراهي على تغير إدارة ترامب وربما تغيير في سياسات أميركا، لذلك تحاور وتناور ريثما تمر هذه الموجة العارمة!

الأهم بتقديري هو أن فهم دور أيران في المنطقة ينبغي ألا يجري بمعزل عن فهم الموقف الدولي، فدور دول المنطقة مجرد انعكاس لعلاقة المد والجزر المتأثرة بتجاذبات الأقطاب الدولية وسياساتها، لذلك شهدت إيران صعوداً (حالة المد) في مرحلة الحرب الباردة، لما يكن ذاتياً ولم يكن عفوياً ولم يكن بريئاً، أشرنا إليه بنبذة موجزة من الشواهد في هذا المقال، كما تشهد إيران الآن هبوطاً (حالة الجزر) جراء تغير سياسات الدولة الأولى في العالم في عهد ترامب. قد يكون انحدارها نتيجة ذلك سريعاً ومفاجئاً، وقد يكون تدرجياً بطيئاً. لكن بغض النظر عن كونه بطيئاً أم سريعاً، فإنه كما كان في مرحلة المد مكلفاً ومؤذياً، فإنه في مرحلة الجزر قد يكون أكثر تكلفة وإيذاء وإيلاماً.