اختراق علمي يبشر ببداية نهاية الإيدز

دراسة حديثة تتوصل إلى نتائج مشجعة باستخدام لقاح الحمض النووي الريبي المرسال مصمم بتقنية لتحفيز الخلايا المناعية المنتِجة لأجسام مضادة نادرة ضد فيروس نقص المناعة البشرية.

واشنطن - تُظهر دراسة جديدة جمعت بيانات من تجربتين سريريتين من المرحلة الأولى أن استراتيجية لقاح موجّهة يمكن أن تُفعّل بنجاح الاستجابات المناعية المبكرة ذات الصلة بفيروس نقص المناعة المكتسبة.
وظلّ التحدي العلمي القائم منذ عقود في تطوير لقاح ضدّ فيروس "إتش آي في" يتمثّل في إيجاد طريقة لتدريب الجهاز المناعي على إنتاج أجسام مضادة يمكنها استهداف العديد من متحوّرات الفيروس. لم تنجح الأساليب التقليدية، ويرجع ذلك أساسًا إلى أن "إتش آي في" يتحوّر بسرعة ويخفي أجزاء رئيسية من تركيبه عن الجهاز المناعي.
وفي إحدى التجربتين، يمكنها دفع هذه الاستجابات إلى الأمام، وهي خطوة رئيسية نحو هدف طال انتظاره في تطوير اللقاحات.

وأُجريت التجارب من قبل فريق دولي بقيادة علماء من "آي آي في آي" و"سكريبس ريسيرتش"، وشملت نحو 80 مشاركًا من أميركا الشمالية وأفريقيا، واضعة بذلك أساسًا ضروريًا لتطوير لقاح مستقبلي ضد "إتش آي في" بقدرة عالمية. نُشرت الدراسة في مجلة "ساينس" بتاريخ 15 مايو/أيار 2025.
اختبرت إحدى التجارب استراتيجية تلقيح تدريجية، حيث تم إعطاء جرعة تمهيدية وأخرى معززة ومختلفة بشكل متتابع، لتوجيه الجهاز المناعي خلال مراحل تطوير الأجسام المضادة. أظهرت تلك التجربة أن إعطاء هذا المزيج، وهي تقنية تُعرف بـ"هيتيرولوجوس بوستينغ" يمكن أن يعزز الاستجابة المناعية لدى البشر.
أما التجربة الثانية، فقد ركزت على مرحلة التمهيد، وأظهرت أن جرعة اللقاح الأولية يمكن أن تُفعّل الخلايا المناعية المرغوبة بنجاح لدى المشاركين الأفارقة، مما يدعم استخدام هذا النهج في المناطق الأكثر تضررًا من "إتش آي في". في كلتا التجربتين، تم استخدام منصة لقاح مبنية على "إم آر إن آي"، وهي تقنية مماثلة لتلك المستخدمة في لقاحات "كوفيد-19" مما أتاح إنتاجًا أسرع واختبارات سريرية فعالة، إضافة إلى استجابات مناعية قوية.
يقول المؤلف الرئيسي ويليام شيف أستاذ علم المناعة والميكروبيولوجيا في "سكريبس ريسيرتش"، ونائب رئيس تصميم البروتين في أبحاث الأمراض المعدية بشركة "موديرنا"، والمدير التنفيذي لتصميم اللقاحات في "مركز الأجسام المضادة المعادِلة التابع لآي آي في آي": "لقد أظهرنا الآن في البشر أننا نستطيع بدء الاستجابة المناعية المطلوبة بجرعة واحدة، ثم دفع الاستجابة إلى الأمام بجرعة ثانية مختلفة. كما أظهرنا أن الجرعة الأولى يمكن أن تعمل بشكل جيد في السكان الأفارقة. هذه التجارب توفر دليلًا على المفهوم في نهج تدريجي لتحفيز استجابات مصمّمة خصيصًا ليس فقط للقاحنا، بل لمجال اللقاحات بأكمله، بما في ذلك اللقاحات غير المتعلقة بـ'إتش آي في'."
ويضيف مارك فينبرغ رئيس "آي آي في آي" والرئيس التنفيذي لها: "تُثبت هذه النتائج المذهلة صحة تصميم اللقاح العقلاني الذي يقوم عليه هذا النهج. سيكون اللقاح خطوة هائلة إلى الأمام من أجل الصحة العالمية، وقد يساهم في وضع نهاية لجائحة 'إتش آي في'. وقد أتاح هذا الجهد تعاون استثنائي بين مؤسسات بحث علمي، وممولين، والقطاع الخاص، والحكومات وهو دليل على قوة الشراكة العلمية المبنية على التعاون".

الأجسام المضادة المحايدة على نطاق واسع، أو "بي إن آي بيس"، هي نوع نادر من الدفاع المناعي يمكنه التعرف على مجموعة واسعة من متحوّرات "إتش آي في" وحجبها.

وعلى عكس الأجسام المضادة العادية، التي غالبًا ما تتعرف فقط على نوع واحد من الفيروس، تستهدف "بي إن آي بيس" أجزاء من "إتش آي في" تظل ثابتة حتى مع تحوّرات الفيروس. منذ فترة طويلة، يُنظر إلى "بي إن آي بيس" على أنها الأمل الأفضل لدى الجهاز المناعي لمنع الإصابة بـ"إتش آي في".
الخطوة الأولى لمساعدة الجسم على إنتاج "بي إن آي بيس" هي من خلال ما يُعرف بلقاح التمهيد، وهي جرعة أولية مصممة لتفعيل خلايا "بي" النادرة والبكر، التي تمتلك القدرة على إنتاج "بي إن آي بيس" في نهاية المطاف. يُعرف هذا النهج باسم "جيرملاين تارجتينغ". خلايا "بي" هي نوع من خلايا الدم البيضاء تلعب دورًا محوريًا في جهاز المناعة، إذ تصنع أجسامًا مضادة تتعرف على الفيروسات والتهديدات الأخرى وتحاربها. تُوجّه جرعات اللقاح اللاحقة، والمعروفة باسم المعززات "بوسترز"، تلك الخلايا خلال عملية النضج نحو إنتاج أجسام مضادة تستهدف "إتش آي في".

وعلى الرغم من أن هذه التجارب لم تهدف إلى توليد "بي إن آي بيس" نفسها، فإنها أظهرت أن استراتيجية تلقي سلسلة من اللقاحات المختلفة لتوجيه الجهاز المناعي نحو إنتاج "بي إن آي بيس" تحمل وعدًا كبيرًا.

ويضيف: "لدينا الآن فكرة أفضل عن أنواع الخلايا المناعية التي نحتاج إلى استهدافها للاستمرار في دفع الاستجابة المناعية قدمًا".

فكرة أفضل عن أنواع الخلايا المناعية التي نحتاج إلى استهدافها

تشير هذه النتائج إلى إمكانية تطوير استراتيجية تلقيح تدريجية فعالة باستخدام "إم آر إن آي" "mRNA"، وهي خطوة قد تغيّر قواعد اللعبة في مجال تطوير اللقاحات، خاصةً في مواجهة فيروسات صعبة المراس مثل فيروس "إتش آي في" "HIV".

كما أنّ اعتماد تقنية "جيرملاين تارغتينغ" "germline targeting" أظهر أنه من الممكن تصميم لقاح يستهدف خلايا "بي" "B" البكر بدقة، ويوجّهها نحو مسار إنتاج الأجسام المضادة المحايدة "بي إن آي بيس" "bnAbs".

ومن المنتظر أن تُطلق دراسات مستقبلية توسّع نطاق التجربة لتشمل مجموعات سكانية متنوعة من حيث الأعمار والخلفيات الوراثية، بهدف تقييم فاعلية الاستراتيجية عالميًا. ويأمل الباحثون أن يمهّد هذا النهج الطريق لتطوير لقاحات مشابهة ضد أمراض مزمنة ومعقّدة أخرى، مستفيدين من التقدم التكنولوجي في منصات "إم آر إن آي" "mRNA" و"ديزاين بروتين" "design protein".

كما تمّ التأكيد على أهمية الشراكات العالمية في هذا السياق، لا سيما بين مؤسسات الأبحاث مثل "سْكريبس ريسيرتش" "Scripps Research"، وشركات التكنولوجيا الحيوية مثل "موديرنا" "Moderna"، ومنظمات غير ربحية مثل "آي آي في آي" "IAVI"، وذلك بدعم من حكومات وممولين دوليين مهتمين بوضع حد لوباء "إتش آي في" "HIV".

في الختام، تُعد هذه النتائج خطوة مهمة نحو تحقيق حلم طال انتظاره: لقاح آمن وفعّال ضد فيروس نقص المناعة المكتسبة، يمكّن من حماية واسعة النطاق، ويقرّب البشرية أكثر من إنهاء واحد من أعقد الأوبئة المعاصرة.