اساطير اعلامية: تحولات الاعلام العربي في التسعينات وما بعدها

المشهد الاعلامي العربي يعكس الاستقطابات السياسية والمهنية معا.

الإعلام العربيّ انتقل دون تمهيد، من إعلام جامد إلى إعلام متفوّق وعالميّ مع ولادة قناة الجزيرة التي بدا الإعلام اللبنانيّ نفسه، المنطلق والمتحرر بالمقارنة معها، إعلاما قاصرا ومتخلّفا أمامها. ولكنّ صيرورة الإعلام العربيّ، منقطعة عن سيرورته الظاهرة، لأنّ الحصيلة منقطعة عن المقدّمات هذا إذا كانت الجزيرة تمثّل حقّا إعلاما عربيّا حين احتلت المركز الخامس للعلامات التجارية في العالم أمّا إذا لم تكن فما الذي تمثّله حقا؟ بينما ظلّ الإعلام اللبنانيّ تمثيليا للمجتمعات العربيّة بصعودها وانحدارها.

يقول رولان بارت عالم الاشارات الفرنسي "إنّ البرجوازيّ يخفي حقيقة البرجوازية، وبذلك ينتج الأسطورة الإعلامية." ومن خلال الإخفاء والإظهار يمتاز الإعلام البرجوازيّ بالثراء، بينما "لغة الثوريّ فقيرة لأنّه لا يملك غير لغة معاناته." كما يقول بارت، ولكن، متى تبدأ عوارض الأسطورة بالظهور على أدبيات اليسار؟ يقول "عندما يضع اليسار كلمة (ثورة) بين قوسين.. ينتج الأسطورة!"

فهل لدى الصحافة التقدمية ما تخفيه عندما تنزلق إلى الأساطير؟ وماذا عن الإعلام الذي يضع "الأسطورة" نفسها بين قوسين حين تكون الأسطورة هي "الثورة" أو "المقاومة"؟

صحيفتان لبنانيّتان هما السفير والنهار كانتا تستقطبان، في الحرب الأهلية، تيّارين متصارعين. لكنهما كانتا تمثلان معا أنموذجين للصحافة المحترفة مهنيا، وكان هذا يجعل من السفير موضع تقدير وإعجاب لأنّها على حداثة عهدها – وقتها - ورفضها للتمويل النفطيّ والإيديولوجي ورغم انتمائها لأيديولوجيا تقدمية معلنة، استطاعت أن تحتلّ موقعا احترافيا مرموقا إلى جانب صحيفة بورجوازية هي النهار أقدم زمنا وأكثر ثراء، وكانت لها قناة تلفزيونية موازية من حيث الخطاب السياسيّ والثقافيّ هي إل.بي.سي، وكانت الحياة صحيفة مستقلّة هاجرت إلى لندن. وظلت السفير والنهار تحافظان على مستوى فنّيّ احترافيّ من حيث الشكل والشعار والإخراج، في مقابل صحافة جديدة مفبركة شكلا ومضمونا ذات شارات فنية مرتجلة وشعبوية. ثم بيعت الحياة بهدوء للأموال النفطية، فحافظت على الشكل والشعار ولكنها شهدت تحوّلا مواربا في المضمون، وفي سياسة توزيع المقالات، وأصبحت أكثر "ثراء" بالمعنى الماديّ والرمزيّ.

          *    *    *

في جريدة الحياة كانت هناك زاوية كان يرمز لها رسم لعمارات شاهقة بقرب رسم طائرة مدنية مجنّحة وعنوان الزاوية "حول المدينة"، وعندما قامات طائرات مدنية بتدمير برجي نيويورك في الحادي عشر من أيلول 2001 أزيل رسم الطائرة وبقي رسم العمارات الشاهقة، ثم أعيدت الطائرة لبضعة أيام ثم تقرّر إزالتها نهائيا بعد توجيه الاتّهام للقاعدة! لقد خافت الحياة من التلويح بأيّ رمز أو استعارة أمام الثّور الأميركي الهائج المتعطش للدخول في لعبة الإرهاب ومكافحة الإرهاب الرمزية. وعكست الجزيرة والعربيّة تحوّلات الخطاب السياسيّ.

لم يكن قد أتيح للمواطنين العرب أن يتخيّلوا تلفزيونا عربيا كالجزيرة في أحلامهم، إذ سرعان ما وجدوا أنفسهم في أواخر التسعينات، أمام شاشة الجزيرة في الحقيقة لا الحلم؛ غير مصدّقين ما يشاهدونه وما يسمعونه. وفي البداية، كان قلّة من المحظوظين الذين يمتلكون صحونا لاقطة ينقلون شفاها كلّ ما شاهدوه في القناة لمعارفهم الأقلّ حظّا. وهكذا كان المواطنون يسردون في الأسواق وفي أماكن العمل حوارات "الاتجاه المعاكس" دون أن يكونوا قد شاهدوا البرنامج.

كانت التسعينات منذ بدايتها شهدت تغييرا في التلفزيونات الحكومية كانعكاس لحرب تحرير الكويت والنظام الدولي الجديد، تمثل في السماح ببث أغنيات الفيديو كليب والإعلانات التجارية التي كانت من سمات القنوات اللبنانيّة وحدها، وهما مجالان من الصور التي تظهر أجزاء من جسد المرأة بالإضافة إلى إشاعة إحساس بالنعيم ناتج عن التلويح بالحاجات والتلويح بإشباعها وهما مجالان يدغدغان الغرائز. وكما يقول عالم الاجتماع الأميركي هربرت شيللر فإنّ الإعلانات "تروّج الوضع الراهن". أما الفيديو كليب فكان تحريرا جنسيا بمقياس المجتمعات العربيّة والإنسان العربيّ المتصلّب بدأ يشعر بالاسترخاء وامتلأت شوارع المدن العربيّة بفتيان تبدو عليهم السعادة والمرح، والميل الدائم للاستمتاع، في الوقت الذي كان فيه العراق يتألّم من الحصار.. و"بقدر ما يكون الفرد جاهلا بما يدور حوله، يكون سعيدا" على حدّ تعبير الفيلسوف الالماني هربرت ماركيوز. وفي إحدى الحفلات الغنائية على شاطئ البحر في مصر قام الشبان بعد انتهاء المغنية اللبنانيّة من الغناء، بالهجوم عليها، هكذا ببساطة، ولم يستطع رجال الأمن المتواجدين صدّ الشبان الباحثين عن المتعة، واضطرت المطربة للهرب أمام معجبيها والتجأت إلى أحد الشاليهات إلى أن وصلت قوات أمنية معززة وفكت الحصار عن المطربة.

          *   *   *

جلبت الجزيرة تحرير الكلام السياسي في الوقت الذي امتلك عدد متزايد من المواطنين العرب صحونا لاقطة، ومن هنا أصبحت القناة جاهزة للعب الدور الذي تلعبه "العلامة" من حيث وجاهة الإظهار والإخفاء والختم أو التوقيع الذي يمنح الشيء قيمة قد لا يمتلكها، ويسلب عنه قيمة حازها مسبقا حين يحرم من ختم العلامة، وذلك بالمعنى الذي استخدمه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو حين أجرى مقارنة في مقالته "الخياطة الرفيعة والثقافة الرفيعة" كاشفا الآلية ذاتها لبعض الأفكار الحداثية وللملابس الجديدة التي تحوز ختم أشهر مصمّمي الأزياء والموضة الباريسية، راصدا كيف يرتدي أبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة الموضة الجديدة لأوّل مرة وتكون قديمة لأنّ الطبقة الثرية قد استقبلت للتوّ موضة جديدة لا تزال عصيّة على الطبقات الأقلّ ثراء. وبالمثل لم تصبح الجزيرة في متناول الشريحة الاجتماعية الأوسع إلا بعد أن بدأت بإعادة تقديم ثقافة هذه الشريحة بعد أن كانت تقدّم ما هو جديد وانتقاديّ، وكانت إحدى أبرز الإعلاميات والتي كاد وجهها أن يكون رمزا للجزيرة في أوّل عهدها، قد ارتدت الحجاب. وحازت رسائل أسامة بن لادن والظواهري على وجاهة العلامة، وما كان يمكن السخرية منه فورا فيما لو تمّ بثّه عبر قناة عادية، احتاج زمنا قبل أن ينفضّ عنه المشاهدون بسبب القيمة الرفيعة للجزيرة. بينما كان المثقّفون قد انفضّوا مسبقا عن "سجع" أسعد طه الذي يضاهي لغة ابن المقفع وبرامج غسان بن جدو التي بلغت من الخطابية والنمطية حدّا أثار لغطا اضطرّ بن جدو إلى نشر بيان توضيحيّ في السفير! والبقية تأتي.

ولا غرابة أن تحتلّ قناة إم.بي.سي موقعا متوسطا أفقيا بين الفضائيات العربيّة، ومتوسّطا عموديا، أي الشريحة غير المثقفة والنساء، ومتوسطا معرفيا أي غير العميق وغير السطحي تماما، أي أنها بذلك تستقطب غالبية المشاهدين. ومن هنا جاء تقديم مسلسل "باب الحارة" في وقت ليليّ متوسّط (ذروة المشاهدة)، وهو عمل دراميّ لاقى نجاحا كبيرا على مستوى الوطن العربيّ للأسباب المذكورة أي تقاطع الدوائر الوسطية الثلاث والتي تحدّث عنها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران في سياق حديثه عن الثقافة الجماهيرية والتي تخصّ قناة إم.بي.سي ولا تخصّ الدراما السورية بشكل خاصّ. وفي السياق ذاته جاء بث القناة ذاتها مسلسل "الملك فاروق"، وهنا نجد الخطاب السياسيّ للقناة واضحا لا لأنّ المسلسل ذو مضمون سياسيّ، بل لأن قناة العربيّة، أتبعته ببرنامج وثائقي عن الملك، ثم أتبع بلقاء مع نجل فاروق أجراه إعلامي لبنانيّ من المستقبل وعرضته قناة إم.بي.سي وهكذا تعرض المشاهد العربيّ (الوسطي) لحصار تلقينيّ متتابع ثم قدمت العربيّة أخيرا، وكضربة ختامية، برنامجا يحاول معرفة سبب نجاح مسلسل "الملك فاروق" من خلال استطلاع آراء أشخاص مختلفين، وافقوا جميعا على اعتباره لاقى متابعة كبيرة، وهذا ترويج وليس استطلاعا وبغضّ النظر عن الإجابات التي تعرضت لخديعة السؤال نفسه، فإنّ السؤال حقق غايته عندما لم يضطر لتبرير ذاته. أما قناة المستقبل فيروي الموسيقي اللبنانيّ إلياس الرحباني ببراءة كيف عالج قلق مؤسّسها (الحريري) عندما أظهر تخوّفه من ألاّ تلاقي ترحيبا لدى التوزيع المناطقيّ في لبنان. لكنّ الرحباني وعده بأن يجعل قناته الجديدة موضع متابعة الشعب اللبنانيّ كله عبر المناطق المختلفة وذلك حين أطلق برنامج "سوبر ستار" الغنائي، فنجح الرحباني في استقطاب الشعوب العربيّة كلها. وفي رواية الروائية التشيلية إيزابيل الليندي وجهت إحدى الشخصيات نصيحة لمن يقدّم عملا للتلفزيون قائلة: "تخيّل دوما أنّ الجمهور أبله." وهكذا نجحت قناة المستقبل وفق نصيحة الرحباني.

             *   *    *

المعنى واللامعنى.. وتبدل الخنادق الاعلامية

ويمكن القول إنّ للحياة قناة تلفزيونية موازية هي إم.بي.سي التي لديها سياسة توزيع للبرامج، تتناوب فيها البرامج الجادّة مع البرامج التافهة والأخبار مع المسابقات، وتحرّر المرأة مع الإثارة المقنّنة، والأغنيات الهابطة مع الميلودراما البكائية الساذجة التي تجاوزتها الدراما المصرية منذ زمن. هذا التناوب الذي يضيع على المشاهد المعنى، وهو المعنى الضائع على صفحات الحياة، التي استبدلت ليبراليتها باتجاه محافظ يحتجب خلف التناوب المتنوع للمقالات. وبدل أن تنحاز صحيفة الحياة لـ "حماس" التي تمثل اتجاها محافظا، تجد الحياة نفسها تحتل موقع السفير من ناحية تفهّمها لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، بدون أقواس. ويقودنا هذا إلى ملاحظة وضع السفير أقواسا حول المسمّيات ذاتها، بينما تبدو النهار كأنها أقرب إلى مواقف "فتح" والحركة الوطنية اللبنانيّة الآفلة مناقضة بذلك تاريخا مريرا من الصراع مع التقدميين. ومن الطريف أنّ الجزيرة والعربيّة تقعان على تقاطعات جريدتي السفير والنهار وتقاطعات 8 آذار و14 آذار.

ويمكن اعتبار عمود "عيون وآذان" اليومي على الصفحة الأخيرة لصحيفة الحياة والذي يكتبه صحافي لبنانيّ مرموق ومخضرم، نموذجا فريدا لتسخير طاقات صحافية هامة من أجل كتابة "اللامعنى" أو اللاشيء ببراعة. يقابله عمود يوميّ على الصفحة الأخيرة للسفير هو "محطة أخيرة" مازال محافظا على "فقره" ومثابرا على الكشف عن أعمق المعاني للقارئ الذي يستطيع، أن يستغني عن قراءة الصحيفة "الثرية" إذا قرأ عمود محطة أخيرة بإمعان. ونال كاتب "عيون وآذان"، مؤخرا، جائزة أفضل صحافي (…). وفي السفير لم يتأثر عمود "محطة أخيرة" بالتحوّلات "الثرية" التي تسري في السفير ببطء، والتي أصابت الصفحة الرئيسية وصفحة المقالات السياسيّة، والتي أصبحت شيئا فشيئا، صفحة مثيرة للدهشة، ساذجة و"أسطورية"، بينما حافظت الصفحة الثقافية على توجهات السفير الحداثية وإن أصبحت أكثر فقرا. وكان بارت أكد أن "الأساطير" تقع في جانب الإعلام اليمينيّ من الناحية الإحصائية. لكنه يجيب على سؤال: "ألا توجد أساطير لدى اليسار؟" وبسرعة: "نعم، لكن أساطير اليسار فقيرة ومكشوفة."