استبداد الصورة

مع انفجار التطورات تكنولوجيا التواصل والانترنت، الصورة تخرج من مجالها الضيق وتتحول الى اكثر من مجرد ورق يحتفظ به في ألبومات داخل خزانات البيوت أو معلقة في إطار جميل على الجدران، بل اصبحت أداة عابرة للحدود والقيم.

"إذا لم تخش الله فاخش جبروت الصورة". تلك باختصار علاقة الانسان المعاصر بالصورة.

بالأمس القريب كان الوازع الديني والقيم الأخلاقية مكابح قد تفرمل إقدام الإنسان على القيام بأي عمل مشين بمفاهيم عصره ومجتمعه، أو دوافع محفزة للقيام بأمور قد تعود بالنفع عليه وعلى أهله أو بلده. علاقته بالصورة يطبعها الحنين إلى لحظات جميلة يسعى إلى توثيقها بكل سعادة لعله يستأنس بدفئها مستقبلا. حينها كانت التكنولوجيا الرقمية في بدايتها ومعها الصورة التي ما كانت لتخرج عن ورق مطبوع، مما جعل الأمر برمته متحكما فيها نسبيا ولا يدعو للقلق.

مع انفجار التطورات تكنولوجيا التواصل والانترنت، خرجت الصورة من مجالها الضيق ولم تعد مجرد ورق يحتفظ به في ألبومات داخل خزانات البيوت أو معلقة في إطار جميل على الجدران، بل تحولت إلى أداة عابرة للحدود والقيم، يكاد يمتلكها الجميع، صغارا وكبارا، توثق أي شيء مهما علا شأنه أو دنى. وزاد الأمر استفحالا مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي العابرة للحميمية، والتي وفرت تربة خصبة لكي تكرس الصورة جبروتها وتبسط هيمنتها وتتربع على عرش العالمية. انجذاب الإنسان نحو الصورة يجد تفسيره في تأثيرها على أمزجتنا عبر ضخ جرعات من الأدرينالين في أدمغتنا، كما يحدث عادة عند تعاطي أي عقار منشط. لكن في مقابل، قد يؤدي هذا النشاط البيولوجي المحفز لعواطفنا إلى إرباك أنشطتنا العقلية مما يفسح المجال لسيطرة الغريزة على تصرفاتنا ولو مؤقتا، وهذا من شأنه المساهمة في الرفع من نسبة جرائم لها علاقة مباشرة بالصورة كجرائم الشرف والقتل وغيرها.

كما أن استغلال الصورة من طرف الإعلام جعلنا نفقد الكثير من قيمنا الإنسانية وبتنا نكتفي بالنظر إلى صور جثث أطفال وأبرياء يقتلون بدم بارد وكأننا نشاهد فلما عبر الشاشة لا يحرك فينا روح المبادرة الفعالة، الشاهد هنا الحالة الفلسطينية. وأحيانا كثيرة لا نكلف أنفسنا عناء التساؤل أو التشكيك في مصداقية صور تقدم لنا على أنها حقيقة مطلقة، وما هي، في الواقع، سوى اسقاط إيديولوجي لمنظومة متكاملة توجهنا حسب أهدافها المضمرة والمعلنة وتستخدم لذلك أحدث برامج الذكاء الصناعي أو غيره. مشاكل الخصوصية هي الأخرى وجدت سبيلها لتطفو على السطح؛ فتحولت الصورة إلى جحيم يقض مضجع الإنسان الذي وجد نفسه محط سخرية واستهزاء وتنمر من البعض ومصدر ربح واغتناء لآخرين أو خطة إجرامية لأحدهم وهكذا.

في عالم اختلطت فيه الخصوصية بالكونية وكادت تذوب فيه القيم الإنسانية الطبيعية، وقف الانسان عاجزا عن التصدي لتحديات أرغم على مواجهتها؛ فسن القوانين وأحدث الشرطة الرقمية وغيرها، ومنهم من لجأ إلى خدمات بعض الشركات الخاصة لمراقبة المدعوين ومنعهم من تصوير حفلة عرس أو عقيقة مثلا. وكلها حلول غير ذات جدوى أمام استبداد الصورة وسطوتها لتبقى الحلول المجتمعية المبنية أساسا على القيم الإنسانية الأصيلة وقاية وعلاج.