استفتاء اللبنانيين

جاء وقت التفكير بإجراء استفتاء الشعب اللبناني مباشرة حول المواضيع المصيرية التي على أساسها يتقرر مصير وحدة لبنان والنظام ونوعية الشراكة الوطنية.
المنظومة المتحكمة بالبلد تظن أن ما لم تأخذه بالقوة ستأخذه بالجوع
لا حياة لدولة لا تجسد إرادة بنيها ولا حياة لأمة من دون دولة حرة وقوية وتشبه شعبها

لا يتوقف وجه الشبه بين لبنان وأوكرانيا على الموقع الجيوسياسي، بل يمتد إلى المآسي التي فتكت بالشعبين وإلى روح المقاومة التي يتميزان بها. لقد استخف فلاديمير بوتين بقدرة الشعب الأوكراني على الصمود بوجه جيشه مثلما قوات الاحتلال العديدة في العقود الأخيرة استخفت بعزيمة الشعب اللبناني. غفل على جميع هؤلاء أن إرادة اللبنانيين أقوى من قوتهم وقادرة على الالتفاف على موازين القوى. كل شعب أقوى من عدوه إذا توحد وقاوم وصمد. في لبنان، بحكم تعدد الولاءات والصراع حول هوية لبنان والاختلاف على لائحة الأعداء، كل فريق قاوم وحيدا عدوا غير عدو الآخر. ورغم ذلك انتصرنا مداورة، ثم بددنا الانتصارات بالأحقاد والأنانية والمقايضة والتسويات وبعدم توظيفها في بناء دولة القانون. هكذا، فقدت الانتصارات مفعولها الوطني وانسحب الأعداء وبتنا أعداء بعضنا البعض.

في هذا السياق، يتأكد أن تجويع اللبنانيين وإفقارهم، وهم ليسوا بفقراء، خطة مدبرة لقتل روح المقاومة والكرامة والثورة فيهم ولإذلالـهم وإخضاعهم. تظن المنظومة المتحكمة بالبلد ــــ ومن وراءها خارجا ــــ أن ما لم تأخذه بالقوة ستأخذه بالجوع. لكننا نطمئنها بأنها لن تأخذه لا بالقوة ولا بالجوع. اتكالنا هو على أنفسنا أولا. سبق للاتحاد السوفياتي أن جوع شعب أوكرانيا عمدا بين سنتي 1931 و1933 بغية إخضاعه. لجأ السوفيات إلى تنظيم "إبادة بالمجاعة" مع أن أوكرانيا غنية زراعيا وخصبة بإنتاج القمح وتدعى "أهراءات" أوروبا الوسطى. آنذاك نفى ستالين التسبب بتلك المجاعة التي أدت إلى موت نحو ثلاثة ملايين أوكراني. لكن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، نشرت الوثائق السرية وتبين أن ستالين استغل المجاعة الجماعية لإخضاع أبناء الريف الأوكراني. وسنة 2008 بادر البرلمان الأوروبي إلى إصدار توصية يعتبر فيها "الإبادة بالمجاعة"، جريمة مروعة وضد الإنسانية.

على أمل أن يأتي يوم يتم فيه الاعتراف بالمجاعة المنظمة والفقر المنسق اللذين تعرض لهما لبنان بين سنتي 2019 و2022، يجدر باللبنانيين أن يقيموا مسلسل التجارب الأليمة التي عانوها ويقرروا بصراحة وشجاعة تحسين مصيرهم وتحصينه لئلا ترجع المحن بأثواب وأسماء جديدة، ولئلا يعلل الأعداء أنفسهم بحنين العودة إلى لبنان. والتطورات الإقليمية والدولية الجارية تترك انطباعا بأن الأنظمة أو القوى المحلية التي تجبرت وتخطت الخطوط الحمراء واعتبرت نفسها فوق الدساتير والشرعيات والقوانين الدولية وأطاحت بالحدود الدولية باتت في وضع حرج رغم الغطرسة المتمادية.

يتعزز هذا الانطباع إذا نجحت المقاومة الأوكرانية في مواجهة الاجتياح الروسي. حينئذ يتشجع العالم ويستفيد من زخم وحدته الجديدة، ويقرر وضع حد لـ"الدول المارقة" وحماية الشعوب في تقرير مصيرها. وأصلا، تاريخ القرنين الماضي والحاضر، يظهر أن الذين بدأوا الحروب غالبا ما ربحوا معاركها الأولى وخسروا الحرب. وبالمقابل، كشفت أزمات العالم، لاسيما في الشرق الأوسط، أن الأطراف التي سلكت طريق السلام غالبا ما وصلت إلى حلول ما ولو بعد حروب.

البيئة الزمنية والجيوسياسية مناسبة للإقدام على هذه الخطوة الوطنية عبر الآليات الديمقراطية السلمية. ليس من الضرورة أن نتقاتل مجددا من أجل التغيير الوطني ما دامت المكونات اللبنانية جميعها متضايقة من وضعها وتفصح عن تطلعاتها تلميحا وبالتواتر. بعض المكونات اللبنانية يعطي الشعور كأنه يقضي مظلومية في كيان لبنان الحالي وينتظر اختصار مدة سجنه ليطلق سراحه. والبعض الآخر يريد أن يتحرر من بقية اللبنانيين بعدما تحرر لبنان من المحتلين. لم التخوين المتبادل؟ ولم العذاب والشعور بالغبن والهيمنة وبضيق النفس الوطني؟ تعالوا نتنفس.

مرت مئة وعامان على خيار دولة لبنان الكبير، وسبقت هذا الخيار العظيم والتاريخي تجارب إمارة الجبل التأسيسية، ونظام القائمقاميتين المضطرب، وحكم المتصرفية المستقر. وشهدت دولة لبنان المركزية أزمات مصيرية وحروبا مدمرة وانقسامات عميقة وأحلاما قومية. وعبرتها احتلالات فلسطينية وسورية وإسرائيلية، وفـرخت فيها دويلات بموازاة الدولة الشرعية. لكن لبنان هذا كان أيضا مجد الشرق وقبلة الغرب ومنارة الثقافة والحضارة ومثال النجاح المالي والاقتصادي ومنبر التعايش المسيحي/ الإسلامي. قيمة هذه المعطيات أنها توفر لكل لبناني معايير واضحة لاختيار أي لبنان يريد مستقبلا في ضوء لبنان الماضي والحالي. فإذا البعض يعتبر أن اختيار لبنان الكبير سنة 1920 أتى "على العمياني" وبالفرض وأحديا، فليرنا اليوم خياره الواعي والحر والجماعي.

ليس مصدر التغيير الحقيقي الانتخابات النيابية والرئاسية ولا هيئات الحوار بين السياسيين، وجميعها ضرورية ونصلي لتحصل في مواعيدها. مضت علينا مئة سنة ونحن ننتخب وننحدر، ونتحاور ونختلف. جاء وقت التفكير بإجراء استفتاء الشعب اللبناني مباشرة حول المواضيع المصيرية التي على أساسها يتقرر مصير وحدة لبنان والنظام ونوعية الشراكة الوطنية. منذ عقود ونحن على خطوط التماس ومفارق الطرق. تختلط الوحدة بالتقسيم ويلتبس العناق والخناق. أهمية الاستفتاء أنه ينقل للمرة الأولى موقف الشعب مباشرة، دون المرور بالقادة السياسيين والأحزاب الذين تحرك غالبيتهم مصالح وارتباطات خلاف إرادة الشعب في أحيان كثيرة. فالانقسام في لبنان هو بين السياسيين أكثر مـما هو بين الناس الطيبين.

في هذا الاستفتاء الذي يفترض أن ينظمه، مبدئيا، العهد الرئاسي الجديد بإشراف دولي، يجيب اللبنانيون عن الأسئلة التالية التي تبدأ بــــ "هل تؤيدون":

1) دولة لبنان الكبير المستقلة والديمقراطية؟ 2) الحفاظ على اتفاق الطائف؟ 3) حياد لبنان؟ 4) فصل الدين عن الدولة؟ 5) النظام الاقتصادي الحر المنظم؟ 6) إجراء سلام مع إسرائيل؟ 7) استمرار لبنان وحيدا يقاوم إسرائيل؟ 8) بقاء سلاح حزب الله؟ 9) تطبيق القرارات الدولية؟ 10) اعتماد المركزية أو اللامركزية الموسعة أو الفدرالية أو التقسيم؟ 11) توطين الفلسطينيين أو إعادة انتشارهم في دول تؤمن لهم الحياة الكريمة؟ 12) إعادة النازحين السوريين أو دمجهم في المجتمع اللبناني وصولا إلى تجنيسهم؟

يفترض بالإجابات على هذه الأسئلة ــــ وهي أسئلة غير فئوية ــــ أن تكشف واقع نزاعاتنا المستدامة والمنتقلة من جيل إلى جيل، وتخرج لبنان من الالتباس الوجودي إلى الوضوح ليقرر اللبنانيون شكل الدولة الجديد. لا حياة لدولة لا تجسد إرادة بنيها، مهما كانت هذه الإرادة. ولا حياة لأمة من دون دولة حرة وقوية وتشبه شعبها.