عرب إسرائيل وعرب إيران
تدور الحرب الراهنة بين إسرائيل وإيران، ولا توجد علاقة مباشرة لأي من الدول العربية بها حتى الآن، لكن كل طرف يعتقد في نفسه أنه يدافع عن فريق عربي معين، وبدت الحرب كأنها “كل العرب ضد كل العرب.”
تبدو هذه العبارة قاسية أو تحمل مبالغة أو قفزا على الواقع، وربما استنتاجا متسرعا في خضم حرب لم نتبين فيها الخيط الأبيض من الأسود، لكن الظاهر أن هناك فريقا من النخبة العربية يتمنى تخليصه من الصداع الإيراني المزمن، الذي ضرب المنطقة منذ نحو خمسة عقود، حيث حاولت طهران تصدير ثورتها الإسلامية، والدخول في حروب مع دول عربية، وإشعال أزمات في بعض آخر، ثم اعتمدت على أذرعها.
اللافت أن جميع الأذرع أو الأجنحة الإقليمية انتشرت في دول عربية، مثل: العراق ولبنان وسوريا واليمن وقطاع غزة الفلسطيني، ومع أن هذه الأذرع أضرت بالمصالح العربية أكثر مما أضرت بإسرائيل، غير أن فريقا عربيا يتمنى تفوق طهران على تل أبيب، ما جعل الأولى تلوّح ضمنيا بأنها تخوض معركة نيابة عن العرب.
الحقيقة الثانية، أن هناك فريقا عربيا يريد تفوق إسرائيل على إيران بامتياز، وربما محوها من على الخريطة الجغرافية، أو إضعافها وتفتيتها، وأن ما بدأته إسرائيل هو نهاية دولة أرقت دولا عربية عدة، وتدخلت في شؤونها الداخلية، وسببت ألما للكثير من قادتها، ما جعل تل أبيب تعتقد أنها تدافع أيضا عن شرف وكرامة العرب، وتتحدث وكأنها تنتقم لهم، وعليهم تأييدها سرا وعلانية، لأن الانتصار الساحق على طهران وتجريدها من قوتها النووية والصاروخية يعنيان خلو المنطقة من أحد أهم أوجه التوتر.
لم يُعلن رسميا ما يعرف رمزيا بعرب إيران تأييدا لها، أو يتبنى ما يسمى عرفيا بعرب إسرائيل رؤيتها، وعندما اندلعت الحرب أدانت دول عربية تل أبيب، لأنها أول من بدأتها، وقبلت إسرائيل هذا الموقف على مضض باعتباره موقفا دبلوماسيا روتينيا، وليس موقفا يحمل إدانة سياسية مباشرة لها، ولم يعلن أي من أعضاء عرب إيران تأييدا صريحا لها، بل بعضهم نأى عن إعلان إدانة واضحة لهجمات إسرائيل، كما فعل الفريق الموصوف باسمها افتراضيا.
هي مفارقة سياسية لافتة، تؤكد أن الحواجز بين الفريقين يمكن تلاشيها، أو أن التقسيم نفسه لعبة يمارسها كل طرف في الحرب للإيحاء بأن له مؤيدين من دول عربية.
قد يكون من يطلق عليهم عرب إسرائيل أول الخاسرين ماديا ومعنويا، إذا انتصرت إيران، وانتصارها لا يعني توجيه ضربات تعجيزية لإسرائيل تسبب وجعا لها، بل خروجها محتفظة بسلاحها الصاروخي، وتسريع خطوات امتلاك قنبلة نووية، وعدم تعرض نظام المرشد لهزات هيكلية، وقتها ربما تخرج طهران منهكة، لكنها لن تعدم استرداد عافيتها الإقليمية وتصبح أكثر قسوة على بعض دول المنطقة، ممن تعتقد أنهم دعموا عدوها أو تواطأوا على إيذائها، وتعود طهران محورا إقليميا أشد شراسة.
يمكن أن يكون هذا سيناريو تخيّليا، لأن إسرائيل وحلفاءها في الدول الغربية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة لن يسمحوا لطهران أن تخرج بعافية عسكرية أو حتى سياسية، بعد كل ما جرى خلال الأيام الماضية من توجيه ضربات موجعة لعدد كبير من مفاصلها العسكرية والقيادية والاقتصادية والخدمية، ما يجعل عرب إسرائيل أكثر اطمئنانا لما يمكن أن تسفر عنه الحرب ضد إيران، حيث صورها قادة إسرائيل على أنها حرب وجودية، ولا تقبل القسمة على اثنين أو تحوي تنازلات مهما بلغت تكلفتها، ولا بد أن تفضي إلى كسر آخر شوكة تخرج من جسم إيران، وإنهاء ظاهرة القلق الذي تسببت فيه لبعض دول المنطقة فترات طويلة.
وقد يكون عرب إيران أول الخاسرين إذا ربحت إسرائيل المعركة، وتحولت من أكثر الدول المتفوقة عسكريا إلى أكثرها هيمنة على منطقة الشرق الأوسط، ونجحت في إعادة ترتيب أوراقها بما يلبي طموحات قادتها، وقتها يمكن أن تقوم بعملية تصفية لبقايا عرب إيران، فبعد أن تم إضعاف العراق منذ سنوات، وتدهورت أحوال سوريا، وخسارة حزب الله لقوته العسكرية والسياسية في لبنان، والتخلص من عبء حركة حماس، وهدم جدران في قوة الحوثي باليمن، سوف تتمكن إسرائيل من رسم خرائط جديدة للمنطقة، وهو ما أشار إليه رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو أكثر من مرة في خضم حربه الطويلة على قطاع غزة.
بين الفريقين يوجد فريق ثالث مهم، يتشكل من دول عربية وغير عربية وله خطوط تماس وتقاطعات مختلفة ومتغيرة مع عرب إسرائيل وعرب إيران، يمكن أن يربح إستراتيجيا من الحرب الدائرة بين تل أبيب وطهران، حيث سيخرج منها كلاهما منهكا أو متعبا، فإيران ستفقد قدراتها التي خولت لها أن تحتل مكانا بارزا في المنطقة من خلالها أو عبر أذرعها، وإسرائيل قد تفقد جزءا كبيرا من بريقها الجيوسياسي وقدرتها الكبيرة على الردع، وربما تخسر أهميتها الحيوية في الأجندة الأميركية.
تشير العمليات العسكرية حتى الآن إلى أن الحرب اتخذت منحى صفريا، بمعنى كل طرف يسعى إلى إلحاق هزيمة منكرة بالآخر، وفي هذه الحالة لن يتمكن كلاهما من تحقيق النصر الذي يريده، وبعد أيام أو أسابيع عندما تبدأ الوساطة السياسية مفعولها، يكون كل طرف استنفد جانبا كبيرا من قدراته المادية والمعنوية، وخرج من الحرب منهكا، يسعى فقط نحو ترميم كل ما تآكل في بنيته الأساسية، والتي تحمل طيفا واسعا من المكونات الإستراتيجية.
ما يحسم هذه النتيجة قدرة كل طرف على الصمود وتحمل تبعات الحرب الداخلية، وارتداداتها الخارجية، لكن الوصول إلى ما يعرف بتوازن الضعف بين إسرائيل وإيران ربما يكون مريحا لمن يريدون إعادة هندسة المنطقة على قواعد حقيقية للسلام، فالإنهاك المتوقع لكليهما أو الضعف النسبي الذي سوف تظهر عليه الدولتان سيكونان مفيدين، أو يتم استثمارهما في تهيئة الأجواء لنظام إقليمي أكثر هدوءا، ويراه البعض صيغة جيدة عندما يتم تقويض قوى مثلت شغبا كبيرا في المنطقة السنوات الماضية.
تظل هزيمة إيران ومن يدورون في فلكها معنويا هي الأكثر ترجيحا وفقا لمعطيات دولية عديدة، لكن هذه النتيجة لها محاذير، إذ يمكن أن تضر بمصالح الولايات المتحدة، ويفقد وجودها العسكري في المنطقة دوافعه الرئيسية، وبدت المخاوف من قوة إيران أحد أبرز تفسيرات واشنطن للحضور ومبررات دول استعانت بها منذ سنوات.
بعد خروج العراق من المعادلة الإقليمية الخشنة، لم تعد سوى إيران تمثل خطرا، وخروجها بموجب هذه الحرب يفرض البحث عن أداة/ دولة أخرى بديلة، أو تنتهي ظاهرة الحماية الأميركية من المنطقة، وهذه مسألة صعبة إستراتيجيا في المدى المنظور، فلا يزال للولايات المتحدة بنك من الأهداف تريد استكماله.