الأخبار تلاحقك أينما تولي وجهك

يزعم البعض أنه لا يتابع الأخبار، وهو زعم مشابه لترفع مراوغ عندما يقول أحدهم إنه لا يشاهد مباريات كرة القدم، لديه إحساس دفين ومزدوج أن متابعة كرة القدم تهمة تقليدية تصيب الجميع ويحاول التهرب منها.

لكن مزاعم الاثنين غير حقيقة، فلا الأول قادر على تجاهل الإخبار أكثر من ثلاثة أيام، بينما الثاني يضع سرا من أعين الآخرين جدول المباريات في مدونته الشخصية كي يتابعها.

ألا تشتري الأخبار اليوم وإلى زمن قريب قادم، أمر يمكن تفهمه في بيئة رقمية مفتوحة على ما يحدث في العالم، لكن رفض متابعة الأخبار أشبه بالتوقف عن القراءة والمعرفة والقبول بالجهل.

الامتناع عن متابعة الأخبار قد يخفف شيئا من الصداع ويبعد المرء عن قلق وأسى ينتابانه من مآسيها وتداعياتها، لكن أيضا يجعل منه شخصا ضائعا بين الآخرين، وكأنه متهرب من تحمل مسؤولية الموقف مما يحدث في العالم.

التهرب من متابعة الأخبار هو نوع من التهرب من المعرفة، صحيح أن العصر الرقمي صار ينتج من المعلومات ما يفوق قدرة البشر على التقبّل، لكن خيار المتابعة والتركيز على جانب معيّن في الأخبار أمر لا يمكن تجاهله.

يبدو لي أن غالبية من يزعمون أنهم لا يتابعون الأخبار، ليسوا صادقين أمام أنفسهم، الحياة المعاصرة أضحت سلسلة أخبار تدور أمام الناس، تصلك الأخبار في لحظة حدوثها في رسائل متسارعة على الهواتف، الأخبار موجودة أيضا في أشرطة نصية على شاشات صارت متوفرة في المحطات والميادين العامة والحافلات والقطارات. التلفزيون ليس المصدر الوحيد للأخبار كما كان الحال قبل عقود. إننا نشاهد يوميا في تحركنا “تلفزيونات” صغيرة ومحمولة، معلقة ومتحركة تبث على مدار اليوم الأخبار.

أينما تولي وجهك، ثمة خبر يلاحقك ويعرض عليك نوعا من المعرفة والمعلومة، فهل من المُجدي وضع الرؤوس في كيس اللااهتمام!

لا يبدو الأمر متعلقا بالابتعاد عن الأخبار الزائفة، لأن مزاعم البعض بعدم الاهتمام بالأخبار، هي نوع من الهروب مما يحدث في العالم متوهما أنه أمر مريح للأعصاب. لكن الحال أنه أيضا أمر مسبب للفراغ المعرفي. ومثل هذا الأمر يفسر لنا لماذا تنتشر الأخبار الزائفة بشكل أسرع، ويبحث عنها الناس أكثر من الأخبار الحقيقية.

ويعزو الباحث سينان آرال في معهد ماساتشوستس للتقنية سبب ذلك إلى “أن الأخبار الزائفة عادة ما تكون غير مألوفة، لذلك يميل الناس للمشاركة في المعلومات غير المألوفة”.

سبق وأن اعتبرت ماداين بونتنغ المحررة في صحيفة الغارديان الفكرة المتطرفة والداعية إلى عدم متابعة الأخبار، بأنها تفتقر إلى المسؤولية على اعتبار أن الصحافيين يعملون أسوة بأي مهنة أخرى للرقي بالقيم الاجتماعية وتقديم الحقيقة إلى مزيد من الناس، ولهذا ترى الملايين يترقبون أخبار حركة المرور مثلا لتجنب الطرقات المزدحمة، وهذه واحدة من وظائف الأخبار.

صحيح أن تدفق المعلومات على الإنترنت يفوق قدرة الإنسان المعاصر، وليس بمقدور أدمغتنا استيعاب كل ما ينشر من معلومات اليوم. لكن بونتنغ ترى أن تصفّح الإنترنت لا يفقد الإنسان تركيزه، مشيرة إلى أن الأطفال البارعين في التفاعل مع جهاز أي باد أكثر تركيزا في التعامل مع ما يتلقونه من معلومات.

الأخبار تعرض دائما للأحداث والأفكار التي لا تصادف في مرورها على الإنسان العابر لتزيد مساحة المعرفة في دماغه وتزيد قدرته على فهم التنوع الهائل في التجربة الإنسانية.

وتتفق ماداين بونتنغ مع الفكرة القائلة بأن بعض الأخبار ترفع معدل القلق داخل الإنسان، لكن هذا المعدل هو مقياس مقبول وفق مستويات التوتر التي تسببها طبيعة الحياة.

وتقول “إن التعاطي مع الأخبار يشبه تناول السكر أو الكحول، فهو بحاجة إلى اعتدال صحي لا لإدمان، مثل القراءة الخالية من الدسم”.

إلى أن تصل بالقول إن التراجع عن متابعة أحداث العالم تقود لا محالة إلى الجهل، بينما هناك مسؤولية إنسانية لمعرفة وفهم العالم والعصر الذي نعيش فيه. وشبهت ذلك بالسبب الجذري للديمقراطية، “ولنا أن نتخيّل أي ديمقراطية يمكن أن نعيشها إذا كان الناس لا يريدون المعرفة؟”.

في النهاية تبقى الأخبار صناعة بحاجة إلى التطوير لإغراء الجمهور بمتابعتها، بل وشرائها لأنه يغلب على المستهلك الحصول على ما يريد في النهاية، فسوق بيع الأخبار يعد بالكثير بعد فرض وسائل إعلام كبرى ضريبة عليها، هذا يعني أن المتابعين المخلصين على استعداد لدفع الأموال من أجل المحتوى الخبري المتميز، لذلك تبدو الشروط المالية لشركات الإنترنت الكبرى عائقا أمام ناشري الأخبار المتميزة، بل تقشعر أبدانهم وفق تعبير جون جابير الكاتب في صحيفة فاينشيال تايمز، عندما يصطدمون بشروط غوغل وفيسبوك! “بعضهم – ربما جيف بيزوس، مؤسس أمازون وصاحب واشنطن بوست- قد يقبل بما هو أقل للوصول إلى المزيد من القراء. لكن آخرين يخشون من أن ذلك لا يغطي تكاليف الأخبار التي تأتي نتيجة أبحاث عميقة. يقول أحدهم “سيكون من الصعب جدا جعله يحقق نتائج مالية جيدة”.

بيئة الأخبار صناعة كبرى صار الملايين من الناس شركاء في صناعتها، لذلك دخلت عليها الأخبار الزائفة لتمرير أجندات وغايات أنانية، لكن فكرة التوقف عن متابعة الأخبار لا تنمّ عن تفكير سليم يقود بالضرورة إلى الجهل.