الانقلاب العاشر في دمشق
منذ أن تأسست الدولة "الوطنية" في سوريا وهي تعيش على وقع انقلابات عسكرية صبغت شكل السلطة في دمشق عبر عقود مريرة مرت على السوريين، كانت الكلمة العليا فيها للعسكر والأجهزة الأمنية التي حمت الأنظمة القمعية، وأحصت على الشعب أنفاسه.
لذا لا يبدو مفاجئاً للسوريين ما حدث قبل أيام في دمشق في طريقة تولي احمد الشرع رئاسة الجمهورية عبر اعلان البيان رقم واحد كما في كل الانقلابات السابقة حيث يُعلق العمل بالدستور، وتُحل المؤسسات العسكرية والامنية والسياسية للنظام السابق، وحل البرلمان، وتنصيب أحد قادة الانقلاب رئيساً. هذا ما جرى في سوريا من قبل، فاستمر حكم حسني الزعيم اربعة اشهر وعشرة ايام، وحكم سامي الحناوي اربعة اشهر واربعة ايام، واديب الشيشكلي في انقلابه الأول حيث سمى صديقه المقرب فوزي سلو رئيساً للدولة عامين، واديب الشيشكلي في انقلابه الثاني ثمانية أشهر، ثم جاءت انقلابات البعثيين على بعضهم البعض فحكم لؤي الاتاسي اربعة اشهر، وامين الحافظ ثلاث سنوات، ونور الدين الاتاسي ثلاث سنوات، وحافظ الاسد ثلاثين عاماً وبشار الاسد اربعة وعشرين عاماً.
بدل أن يجتمع مجلس قيادة الثورة في الصيغة البعثية، اجتمع قادة الفصائل المسلحة وقرروا حل أنفسهم والاندماج في جسم عسكري واحد، وتنصيب أحد قادة الفصائل، وهو احمد الشرع، رئيساً لسوريا.
الان في سوريا تخطت الفصائل المسلحة على ما يبدو مرحلة "التمكين" مبكراً وبسرعة، وأصبحت الوعود الوردية حبراً على ورق وخبراً عاجلاً باهت اللون، الفترة الانتقالية تم تمديدها، مؤتمر الحوار الوطني لم يعد مدرجاً على لائحة الاهتمامات القريبة، الاعلان الدستوري في خبر كان.
الشرع اعتمد على ما يسمى "الشرعية الثورية"، ولكنها لا تعبر عن الواقع المرير الذي عاشه السوريون طوال اربعة عشر عاماً، فقد تم اختزال كل المعارضين الذين عملوا خلال السنوات الماضية سياسياً وقانونياً واجتماعياً بثمانية عشر فصيلا مسلحا منحوا الشرع شرعيته الثورية، لكنهم بالتأكيد لم يمنحوه "الشرعية الدستورية" التي تستمد قوتها من المؤسسات القانونية والدستورية والانتخابات، بينما "الشرعية الثورية" قد تفضي الى استمرارها زمناً طويلاً بمسوغات لا يجد مَنْ يتبعها صعوبة في ايجادها، ومع الزمن تُرسخ نظام استبدادي تحت ذريعة حماية الثورة من المتربصين بها، وتخلق حالة من عدم الاستقرار بسبب غياب المؤسسات القانونية الراسخة. وتُستخدم في بعض الأحيان كذريعة لتأجيل الانتخابات أو قمع المعارضين.
الوضع معقد جداً الان في سوريا، والمخاوف كثيرة فمجرد تنصيب رئيس للبلاد من قبل فصائل مسلحة يثير المخاوف بهيمنة العقلية العسكرية والان بصبغتها المتطرفة على البلاد، وسط غياب كامل للتشاركية من مؤسسات المجتمع المدني وشخصيات وطنية فاعلة، ما يعني اننا أمام خطورة كبيرة على مستقبل سوريا بعد سقوط نظام فاسد ومجرم جثم على أنفاس الجميع أكثر من نصف قرن، لكن ما حدث يتجاوز الانقلابات الكلاسيكية بمراحل بل هو نسف لكل مقومات المؤسسات السياسية والاجتماعية والدستورية في سوريا. وكأن الشرع ورجاله يريدون صياغة سوريا على صورتهم ومثالهم، ويترافق ذلك مع تسويف مقلق مستخدم في خطاب الشرع وفترات زمنية للحكومة والدستور ومؤتمر الحوار الوطني وفترة الرئاسة كلها فترات زمنية طويلة ورجراجة وغير مريحة.
هيئة تحرير الشام استأثرت بالسلطة الانتقالية (الرئاسة، الوزارات، المحافظين) في خطوة نحو تكريس سلطة الحزب الواحد مع تطعيمها ببعض الأصوات المختلفة، وسط تهميش كامل للمعارضة وللشرائح الشعبية والوطنية، تحت مسمى "مرحلة انتقالية" لكن تجربة الشعوب العربية مع المراحل الانتقالية لا تبدو مبشرة بالخير لانها تتحول الى استئثار بالسلطة. لكن في سوريا وبعد هذه السنوات الصعبة لن تكون الأمور بالسهولة التي يتصورها حكام دمشق الآن، لأن لسوريا خصوصيتها الاجتماعية والسياسية والحزبية وهذا أمر لا يمكن إغفاله بمثل هذه البساطة لذا سيقود من يسير في هذا النهج الى طريق مسدود.
ولعل تصريح وزير العدل السوري عن دور الشريعة الاسلامية في المرحلة القادمة وانها أمر مفروغ منه لان الشعب السوري فيه نسبة 90% من المسلمين الذين حتى لو اقترعوا على الشريعة الاسلامية فسيصوتون لصالحها لانها في صلب قناعتهم وعقيدتهم، ومن بعده اعتبار الديمقراطية "شر مطلق" على لسان مدير المخابرات السورية الذي انتقد الاخوان المسلمين معتبراً انهم ارتكبوا خطأً تاريخياً عندما اعتقدوا انهم يستطيعون تسويق قضية الديمقراطية الاسلامية، لذلك غابت كلمة الديمقراطية عن خطاب تنصيب احمد الشرع ناسفاً بذلك ما تبقى من برغماتيته التي انتهجها منذ دخول دمشق.
الآن المطلوب تقليص الفترة الزمنية لإقرار دستور البلاد، وتشكيل برلمان مؤقت لتعديل القوانين وإضفاء الشرعية عليها، ولكن فترة اربع سنوات لهذا الامر طويلة جداً ولا توحي بالطمأنينة على ما هو قادم.