التعليم في السعودية والحاجة لمهارات القرن 21

لا شك بأن العالم برمته قد بدأ يعيش مخاض الثورة الصناعيّة الرابعة وتداعياتها وبالتالي تكون النظم البشرية وتشكلاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية محل استهداف عميق. لن يقتصر الأمر على التبدّل في استراتيجيا الفعل والأداء فحسب، بل أن العديد من النظريات العلميّة والسلوك الاجتماعي سوف تدخل في موجة أشبه ما تكون من الإخضاع القهري لمتطلبات وحاجات تلك المتغيرات الصناعيّة الضخمة. وهذا كله يتطلب استعدادًا كبيرًا يوازي في حجمه ما سوف تفرضه من اشتراطات ضاغطة. لذا وكما كان عليه الحال سابقًا وفي سلسلة من المواجهات لمتطلبات الحاجة التي كانت تفرضها مراحل الثورات الصناعيّة الأولى والثانيّة والثالثة، يأتي التعليم بوصفه الترموميتر لنماء وتنميّة المجتمعات والدول ويكون الرهان عليه في إحدث الفارق الحضاري وكمعادل نوعي في إعادة توجيه التفكير والوعي نحو نظم ومتطلبات المرحلة التكنولوجيّة الحديثة، فقد كان التعليم في مرحلة سابقة وما يزال يغلب عليه طغيان المعلوماتيّة وكثافة المعارف، وذلك حسب ما كانت تفرضه المراحل الماضيّة من اشتراطات. غير أن واقع الحال اليوم يندفع نحو إحداث متغيرات جذريّة ضاربة في العمق البنائي للثقافة الاجتماعيّة تحديدًا.

الحاجة باتت مُلحة أكثر من قبل لتضمين مهارت القرن الواحد والعشرين في المناهج التعليمية وجعلها محل تقييم لاداء المتعلم وتقويمه باعتبارها تتماهى وحاجة السوق الصناعيّة مستقبلاً. وهذا يعزز من وجهة النظر الراميّة إلى إخراج دور المعلم من ذلك النسق الكلاسيكي والذي ولا شك وعلى فترات طويلة من الزمن كان له نجاحاته وآثاره الإيجابية على حركة التعليم ومخرجاته. إلا أن ومع تطور ايقاع الحياة المعاصرة، بمختلف روافعها الاقتصادية والتكنولوجية، أصبحت الفجوة آخذة في الاتساع بين التعليم كمنظومة وسوق العمل الصناعيّة، مما أوجد الكثير من المخاوف لدى بعض البلدان المتقدمة، فقد كشف توني وينغر المدير المشارك لمجموعة التغيير القيادية (CLG) في كلية الدراسات العليا في جامعة هارفارد، عن اتساع فجوة الانجاز تلك في بلاده أميركا، قياسًا لما تشهده بلدان أخرى من تقدم ملموس في نظم التعليم حسب مؤشرات قياس الأداء الدوليّة، وقد تناول ذلك بالتفصيل في كتابه \"فجوة الانجاز العالمي\" بعد أن توصل إلى وضع معايير توجيهية لمعظم مراكز البحوث والدراسات فضلا عن ترقية وتقويم جودة الأداء للعديد من المدارس في أميركا من خلال الاستعانة بمهارات القرن الواحد والعشرين وتضمينها في المناهج التعليمية.

في المقابل ثمة بلدان أخرى ما تزال في طور البحث عن موقع يجعلها ضمن إطار المنافسة الفعليّة في مجال التعليم على وجه الخصوص. ولا مندوحة القول بأن التعليم في معظم البلدان العربية بما فيها المملكة العربية السعودية قد يأتي ضمن سياق الدول الجادة من أجل الالتحاق بركب الدول المتقدمة. لكن نحتاج أن نتوج مثل هذه الجدية بعامل آخر وهي السرعة في التغيير لاسيما وأن قطار الزمن بات سريعا جدا. ففي الوقت الذي ومنذ أكثر من عقدين من الزمن تتدافع مجالات التعليم في معظم البلدان المتقدمة تجهيزا وتهيئا للأجيال وذلك من أجل قطف ثمار الثورة الصناعة الرابعة ومحاكاتها حضاريًا، تظل بعض البلدان والعربية منها تحديدا تعاني من البطء في إصدار القرارات، بل حتى وإن جاء أي قرار يصب في مصلحة تطوير التعليم يأتي متأخرًا جدًا عن الحراك الدولي المتسارع الخُطا. لذا نستطيع القول بأن أبرز سمة من سمات المرحلة هو عامل السرعة في اتخاذ القرار، خاصة وأن معظم ملامح المرحلة الحديث باتت واضحة وأن سوق الأبحاث والدراسات فضلا عن تجارب بعض البلدان المتقدمة في مجال التعليم. جميع ذلك قد هيأ الفرصة لمعرفة مواطن الخلل لدينا في جسم التعليم، حيث باتت الضرورة إلى تسارع موازٍ من الاستجابة والحراك لإعادة انتاجيّة أدوار المعلم في المضمون التعليمي، والوصول بأدائه إلى معايير ومواصفات دوليّة من حيث القدرة والكفاءة والفعاليّة، أيضًا استدعاء تلك الجديّة في إحداث التطوير للمحتوى التعليمي بمختلف مكوناته، إذ تجدر الإشارة إلى تضمين وتعزيز المناهج الدراسيّة بما تقتضيه مختلف المهارات والقدرات والتي على تماس حقيقي وحاجة سوق العمل سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل القريب.

اليوم من الطبيعي جدًّا القول بأن معظم الدول المتقدمة في مجال التعليم قد تنبهت ومنذ عقود إلى مدى أهميّة الالتفات إلى التعليم ومجالاته حيث كانت منطلقاتها في غاية الوضوح عندما يعود لسد الفجوة ما بين التعليم وحاجة سوق العمل، ووصولا لمجتمع المعرفة والتنميّة الاقتصادية المطّردة. هونغ كونغ وما يشهده اقتصادها من نمو ضخم وهائل ادخلها في عالم التنافسيّة والابتكار حتى باتت اليوم في الدول الرائدة عالميّا، وذلك ناجم عن ردم الفجوة بين التعليم والتنميّة الاقتصادية. فمعظم الكوادر البشرية التي تدير لعبة المنافسة الاقتصادية في هذا البلد داخليًّا وخارجيًّا سبق وأن تدربت على مهارات القرن الواحد والعشرين؛ كمهارات التفكير العليا والتفكير الناقد والوصول للمعلوماتية وتحليلها، والابداع وحل المشكلات، ووسائل الاتصالات الحديثة، وتكنولوجيا الابتكار والاقتصاد، والفضول والخيال العلميين، وغرس روح المبادرة والقدرة على التكيّف مع الواقع، يأتي ذلك بعد تركيز التعليم لديهم على العلوم والرياضيات والتكنولوجيا والهندسة. وكذلك التعليم في سنغافورة الذي بات طلابها ينافسون الريادة العالميّة على مستوى الاختبارات والبرامج والمسابقات العالميّة فضلا عن تطور اقتصادها الملموس ودخولها في عمليات تنافسية مع أسواق الدول الصناعية العالمية. والحال هذا ينسحب على دول عدة كفنلندا والمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة وكندا.

نعتقد بأن التعليم في بلادنا بحاجة إلى قرارات تنسجم وروح ومخططات رؤية 2030 وتتماهى مع متطلبات الثورة الصناعية الرابعة وفق حاجات سوق العمل المستدامة ومتطلبات التنمية الاقتصادية الواعدة، إذ لا مجال للمزيد من إهدار الوقت والجهد والمال على إعادة تدوير هامش التكرار وقلق الاحباط. فالتعليم في بلادنا بحاجة إلى مناهج يطغى عليها قياس وتنميّة المهارات لا قياس الدرجات، والذهاب بالمتعلم باتجاه الابداع والابتكار وتكنولوجيا المعارف وفق روح التعاون والتنافس، فضلا عن تأهيل المعلم وتدريبه على مهارات سوق العمل واقتصاد المعرفة، بالإضافة إلى إيجاد بيئة جاذبة ومحفزة حسب مهنية عالية الجودة تسهم بشكل أو بآخر في دفع عجلة التعليم إلى المحتوى المباشر وما تقتضه المرحلة الحديثة. وهذا لا يتم إلا عبر حزمة من التغيرات الجذرية على مستوى القرار الإداري والميداني؛ قرارات تبحث عن برامج ومشاريع وأبحاث تسهم في إيجاد تعاون مثمر بين قطاع التعليم والصناعة وريادة الأعمال الحرة والعديد من بعض الشركات الكبرى المحليّة والعالميّة، قرارات واعدة تستهدف المواطن السعودي إلى تنميّة قدراته ومهاراته وريادته للأعمال، وتلبي في الوقت نفسه حاجات سوق الوظيفة والعمل من خلال استقطابة من قبل البرامج والخطط التدريبيّة التي ينبغي أن تقوم بها معظم الشركات الكبرى المؤثرة في اقتصاد البلد، وصولا بهذا المجتع إلى الدينامية والفعل والحيوية، بالتالي تظل المحاولة حاضرة لتحقيق مضمون فكرة الوطن الطامح والقادر. ولتحقيق ذلك ينبغي أن نبدأ الآن وفورًا!