الثورة اللبنانية الثالثة في الصناديق

في بداية انتفاضة 2019 رفع شعار مكافحة الفساد لفضح الطبقة السياسية، أما اليوم، فيرفع هروبا من طرح القضايا الوطنية. قليلة قوى التغيير الشجاعة التي تعطي الأولوية للمصير الوطني والهوية.
بعض دعاة التغيير تفوقوا على المنظومة السياسية في إثارة القضايا الخطأ وفي بث روح الكيدية
يجب خوض معركة التغيير عبر صناديق الاقتراع لئلا يفرضوا علينا خوضها في الساحات غير المنضبطة

ما لم تحدث انتفاضة شعبية نوعية قبل الانتخابات النيابية في أيار/مايو المقبل توقد شعلة التغيير، قد يختار معظم الشعب اللبناني نوابه من بين مرشحي قوى المنظومة السياسية التقليدية. ليس هذا التوقع بشير تغيير. لم يعد الصراع بين الانتفاضة الشعبية والمنظومة السياسية التقليدية بقدر ما صار بين أهل المنظومة أنفسهم، وبين دعاة التغيير أنفسهم. تهمشت نسبيا القوى الجديدة التي تعتبر نفسها قوى التغيير، واغترب بعضها في ولاءاته على غرار التقليديين. والرياح العاتية لا ترحم الأغصان الطرية المبعثرة.

وإذا كان التنافس بين قوى المنظومة التقليدية عاملا يساعدها لتتقاسم في ما بينها نتائج الانتخابات النيابية، فالانقسامات بين القوى الجديدة عامل ضعف يعطل انطلاقها السياسي والانتخابي ويحرمها الكتل الشعبية الناخبة التي تؤمن الحاصل والصوت التفضيلي. قانون الانتخابات الحالي، بحد ذاته، ضد مصلحة الوجوه الجديدة شبه المجهولة. هذا قانون أصحاب القواعد الثابتة والخدمات المتوارثة والثروات الطائلة. وإذا كانت أكثرية دعاة التغيير تفتقر إلى القواعد الشعبية الثابتة والخدمات، فبعضها يستجر إمدادات مالية تفوق أحيانا قدرات بعض القوى التقليدية.

أولى بمن يدعو إلى الشفافية، إلى أي جهة انتمى، أن يكون هو شفافا. وأولى بمن يطلب صوت الشعب ألا يكون صوت غيره. كبر القوى الجديدة أن تكون مختلفة عن سواها. وميزتها أن تختار مرشحين أفضل من مرشحي المنظومة التقليدية. وقيمتها أن تقدم طروحات تلامس الرأي العام أكثر من طروحات القوى التقليدية. والأفضل هنا ليس فقط المرشح الذي يرفع شعار مكافحة الفساد ولا صاحب نظريات الصعب الممتنع، بل ذاك الذي يلتزم مواقف وطنية واضحة كرفع الهيمنة، وحصر السلاح بالجيش، وإعلان الحياد، وإعادة النازحين السوريين، وتحديد مصير اللاجئين الفلسطينيين فيه خارج لبنان، وتحرير الشرعية، وتثبيت وجود لبنان الحر في إطار لامركزي موسع يحترم خصوصية جميع المكونات. فالفساد المالي هو نتيجة الفساد الوطني وليس العكس. لا نزاهة ولا دولة قانون، ولا حوكمة رشيدة من دون وطنية. والوطنية ببساطة هي خلاف ما نحن عليه اليوم.

في بداية انتفاضة 2019 رفع شعار مكافحة الفساد لفضح الطبقة السياسية، أما اليوم، فيرفع هروبا من طرح القضايا الوطنية. قليلة قوى التغيير الشجاعة التي تعطي الأولوية للمصير الوطني والهوية. قيل للآخرين: "القضايا الوطنية تخلفكم، فابتعدوا عنها وركزوا على الفساد". سمعوا الكلمة، ومع ذلك انقسموا وأضاعوا التغيير الوطني ولم يربحوا مكافحة الفساد.

لا تزال "القضايا الوطنية" المادة النضالية الأولى التي تلهب مشاعر الشعب اللبناني رغم الفساد الأسطوري الذي يعم لبنان، وحالات الفقر والجوع، وأزمات الدواء والكهرباء والطاقة والنفايات والغلاء. هذه خصوصية جميع المجتمعات المهددة كيانيا وأمنيا ودستوريا وغير المستقرة في شراكتها الوطنية. وفي السنوات الأخيرة، صارت دول كبرى ومستقرة مثل أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا تولي أهمية خاصة للشأن القومي في برامجها الانتخابية بسبب بروز نزعات انفصالية، وتزايد عدد المهاجرين واللاجئين، وتراكم الأحداث الأمنية والإرهابية. لكن ما يميز هذه الخصوصية في لبنان هو عدم وجود قضية وطنية جامعة، بل مجموعة قضايا "وطنية" تتناقض في ما بينها وتتصارع، وتتوزعها تاريخيا المجموعات الطائفية والسياسية. هكذا يتبين أن ليست وطنية جميع القضايا الوطنية، بل غالبا ما هي نقيض المشروع اللبناني. وتتعقد الإشكالية أكثر حين يدعي الوطنية كل طرف ويخون الآخرين.

وما يؤكد هذا الواقع أن الصراع "الوطني" حال دون كشف فضيحة فساد واحدة، ودون سجن أي فاسد مرموق، لا بل ازدهر الفساد في السنوات الأخيرة، تحت ستار التسويات، أكثر من أي زمن وصار مادة توضب وتصدر. والمؤلم أن بعض دعاة التغيير، ولم يبلغوا أعتاب السلطة بعد، تفوقوا على المنظومة السياسية في إثارة القضايا الخطأ، وفي بث روح الكيدية، وفي تزوير الملفات فخدموا المنظومة وشاركوها التغطية على شبكات الفساد الحقيقية. إن العديد من الخيارات السياسية والتسويات أخطر من الفساد. وأصلا، ما كان الفساد ليتجذر لولا التسويات السياسية المتعاقبة. وما كانت هذه التسويات لتستمر سياسيا وتعوم، لو لم يبرعوا في اقتسام الفساد واستثماره.

علاوة على الواقع السياسي: الموازين الانتخابية تـحث القوى السيادية، أكانت من دعاة التغيير أم من الأحزاب، إلى التحالف للانتصار في الانتخابات المقبلة ولتكوين أكثرية وازنة في المجلس النيابي الجديد قادرة على إحداث التغيير الوطني والأخلاقي المنتظر، وعلى اختيار رئيس سيادي للجمهورية. يخطئ دعاة التغيير إذا توهموا أنهم يحتكرون مشروع التغيير ويستطيعون، وحدهم، تحقيق فوز ذي تأثير. وتخطئ الأحزاب السيادية إذا لم تبذل جهدا لاحتضان دعاة التغيير. إن مستقبل التغيير في لبنان هو رهن الشراكة التاريخية بين القوى السيادية جمعاء. ومعيار هذه الشراكة السيادية هو في نسج التحالفات الرابحة بعيدا عن نية الإلغاء والإقصاء والاختزال على حد قول غبطة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في عظة الأحد الماضي (16/01/2022).

الانتخابات النيابية هذه المرة أمضى سلاح ديمقراطي يعطى للشعب ليختار أفضل المرشحين، ولدعاة التغيير ليطرحوا مصير لبنان السياسي، وللأحزاب السيادية لتجدد قياداتها وتطعمها بنخب واعدة. هذه الانتخابات ـــ إن حصلت، ويجب أن تحصل ـــ لا تقل أهمية عن "ثورة الأرز" سنة 2005، ولا عن انتفاضة 17 تشرين الأول/اكتوبر سنة 2019. يجب أن نخوض معركة التغيير الوطني من خلال صناديق الاقتراع لئلا يفرضوا علينا خوضها في الساحات غير المنضبطة.