الجزائر تفكر في إلغاء الدعم وتتوجس من اشتعال الجبهة الاجتماعية

إلغاء الدعم لا ينبغي أن يكون غاية في حد ذاته بل وسيلة إضافية لإصلاح الإنفاق العام وأيا كان شكل إعادة توزيع الريع، يجب على الدولة تغيير النموذج والاستعداد لإخراجه من الاقتصاد.
النظام الجزائري راهن لعقود على شراء السلم الأهلي عبر تعزيز المكاسب الاجتماعية
الجزائر استثمرت فوائض عائدات النفط في شراء الولاءات الشعبية
اعتماد الجزائر على الطاقة كمصدر وحيد للدخل جعلها عرضة للهزات المالية

الجزائر - أعادت الحكومة الجزائرية فتح ملف رفع الدعم عن المواد الاستهلاكية الأساسية، في ظل اقتصاد يعاني من مشاكل بسبب سياسات الإنفاق العمومي والدعم الاجتماعي وعدم القيام بالاستثمارات اللازمة في مجال المحروقات، وجاءت الخطوة بعد تأجيل ثلاث سنوات، تجنبًا لحدوث اضطرابات وغياب إحصائيات دقيقة بشأن الفقراء.

ويعتبر متابعون أن هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر بالنسبة للحكومة وتعتبر مجازفة، إذ أن رفع الدعم عن شريحة كبيرة من المواطنين الذين يكافحون لتغطية نفقاتهم مع الأسعار الحالية المرتفعة، قد يشعل الجبهة الاجتماعية في ظل احتقان كامن وظهور بوادر احتجاجات شعبية على تدهور الأوضاع الاجتماعية والمعيشية في البلاد.

وقال وزير المالية الجزائري لعزيز فايد خلال جلسة عامة في البرلمان، إن ملف رفع الدعم موجود حاليًا على طاولة الحكومة، مؤكدًا أن دراسة تعد في الوقت الحالي حول الموضوع.

ولطالما اعتمد النظام الجزائري منذ عقود على شراء السلم الأهلي من خلال تعزيز المكاسب الاجتماعية لكسب الولاءات الشعبية وخصص لهذا الغرض صندوقا جزء منه من فوائض سعر النفط، لكن وفي ظل الأزمات المتواترة وبعد الصدمة النفطية في منتصف العام 2014 حين هوى سعر النفط من ذروته عند 100 دولار إلى نحو 20 دولارا للبرميل، وجدت الجزائر نفسها في حالة استنزاف وارباك في ماليتها العامة.

ولفت فايد إلى أن المادة 187 من قانون الموازنة العامة الجزائري لعام 2020 نصت على إعادة النظر في الدعم للمرور من الدعم الاجتماعي الشمولي إلى الدعم الاجتماعي الموجه.

وتعتمد الجزائر على صادرات الطاقة مصدرا وحيدا تقريبا لإيرادات الدولة، لذلك فإن أي انهيارات في سعر النفط تجعلها عرضة لهزات مالية حادة وتضعها أيضا أمام معضلة الاستمرار في نظام الدعم السخي حفاظا على هدوء الجبهة الاجتماعية.
ورغم ذلك خرج مواطنون بإحدى بلدات مدينة قسنطينة الواقعة شرقي العاصمة الشهر الماضي، للاحتجاج على الأوضاع السياسية والاجتماعية، حيث ردد هؤلاء لأول مرة منذ انتهاء مظاهرات الحراك الشعبي شعارات سياسية توحي بأن جذوة رفض الوضع القائم لا زالت مشتعلة، رغم القبضة التي تحكمها السلطة على قنوات التعبير السياسي والإعلامي.

ميزانية الدعم الاجتماعي في الجزائر تقدر بـ17 مليار دولار أميركي وتشمل الوقود والكهرباء والغاز والماء والسكن والصحة والتعليم المجانيين ما يشكل نحو خُمس ميزانية الدولة.

ويؤيد أغلب الخبراء الاقتصاديين هذه الخطوة، بشرط أن يكون نظام التعويض النقدي جيدًا حيث تخشى شريحة واسعة من الجزائريين تأثير رفع الدعم على معشيتهم. وأشار الوزير الجزائري إلى أن "الملف معقد وحساس ومرتبط ارتباطا عميقا برقمنة القطاع".

ومع الانتقال إلى نظام اقتصاد السوق، حلّ نظام دعم المواد الاستهلاكية محل نظام تسقيف الأسعار (تحديده ووضع سقف له) الموروث من الاقتصاد الاشتراكي المعتمد عندما نالت الدولة استقلالها في عام 1962.

وتُقدر ميزانية الدعم الاجتماعي في الجزائر بـ17 مليار دولار أميركي، تشمل الوقود والكهرباء والغاز والماء والسكن والصحة والتعليم المجانيين، ما يشكل نحو خُمس ميزانية الدولة. وكانت تُقدر قيمة الإعانات بين 30 و40 مليار دولار سنويا خلال السنوات الممتدة بين 2012 و2017.

ويرى خبراء اقتصاد أن إلغاء الدعم لا ينبغي أن يكون غاية في حد ذاته، بل وسيلة إضافية لإصلاح الإنفاق العام وأيا كان شكل إعادة توزيع الريع، يجب على الدولة تغيير النموذج والاستعداد لإخراجه من الاقتصاد.

ويقولون أن المشكلة الأساسية بعدم وجود أدوات إحصائية للتعرف على الفقراء إذ من الممكن أن يستمر المستهلكون الميسورون في الاستفادة من حقوق لا يستحقونها.

ميزانية الدعم الاجتماعي في الجزائر تقدر بـ17 مليار دولار أميركي وتشمل الوقود والكهرباء والغاز والماء والسكن والصحة والتعليم المجانيين ما يشكل نحو خُمس ميزانية الدولة.

وتمكنت السلطات الجزائرية من الحفاظ على السلم الاجتماعي من خلال تمويل نظام المساعدات بفضل واردات تصدير المحروقات، التي توفر للدولة أكثر من 95 بالمئة من قيمة المساعدات.

وأوصى خبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الجزائر بضرورة تقليل المساعدات من خلال استهداف المستفيدين منها بشكل أفضل.

وفي عام 2021، صادق البرلمان الجزائري على قانون المالية لسنة 2022، الذي حدد ميزانية الدولة مع فتح الباب أمام رفع الدعم عن المواد الاستهلاكية، لكن الأمر تسبب بجدل أفضى إلى تجميد الخطوة.

وصرح وقتها رئيس الوزراء أيمن بن عبد الرحمن أنه "لم يكن أبدا في نية الدولة رفع الدعم" للأسر محدودة الدخل، موضحا "نفكر في فلسفة جديدة تسمح لنا بتوجيه هذا الدعم إلى أصحابه. وهذا الدعم سوف يكون نقدا ولن تدعم الدولة المواد ولكن مداخيل الأسر بعد تحديد المستوى الذي يجب ابتداء منه دفع هذا الدعم النقدي".

وحاولت حكومات سابقة إعادة توجيه الإعانات إلى مستحقيها، لا سيما في نهاية عام 2015، وفي عام 2017 عندما كان رئيس الجمهورية الحالي عبد المجيد تبون رئيسًا للوزراء. لكن الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة هو الذي منع أي تحرك في هذا الاتجاه. حيث كان يفكر في الترشح لولاية خامسة" سنة 2019 قبل أن تدفعه حركة احتجاجات شعبية مع ضغط من الجيش الى الاستقالة.

وانتهجت الجزائر منذ بداية الألفية خياراً اقتصاديًّا يعتمد على طابع اجتماعي للدولة في ظلّ اقتصاد رأسمالي. جاء هذا الخيار خياراً ضروريًّا لإعادة الثقة إلى الجزائريين بالنظر للظروف التي مرت بها البلاد خلال التسعينيات. لكن مع بداية الألفية وارتفاع أسعار البترول اتخذت الدولة الجزائرية خيارا اجتماعيًّا بتكريس خيار اقتصادي يعتمد على الإنفاق العمومي كمحرك للاقتصاد من خلال المخططات الخماسية المبنية على زيادة الإنفاق العمومي لتحريك عجلة التنمية.

وبالإضافة إلى الإنفاق العمومي الكبير الذي عرفته حكومات بوتفليقة المتعاقبة، فقد اعتمدت السلطة سياسات لدعم أسعار بعض المواد الاستهلاكية ومنها المحروقات، بالإضافة إلى تخفيضات في نسب الضرائب وتعويضات في نسب الفوائد وتمويل مختلف البرامج السكنية، وغير ذلك من صيغ الدعم المباشر وغير المباشر.

وتم تمويل هذا الخيار الاقتصادي عن طريق عائدات المحروقات التي بلغت مستويات قياسية إلى غاية 2014. وقد تزامن ذلك مع تفاقم نِسب الدعم التي بلغت 24 بالمئة من الميزانية العامة في 2021، وتعلق الدعم بما بات معروفاً بالسلم الاجتماعي، وأدى إلى ظهور تشوّهات في معامل الاقتصاد وفي العقد الاجتماعي جعلت من التخلي عن هذا الخيار أمراً صعباً للغاية.

لكن في الجهة المقابلة، اجتمعت عدة عوامل موضوعية جعلت من الإبقاء على الطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية بنفس الطريقة أمراً غير ممكن. ومن الأزمات التي سببها الإنفاق العمومي وسياسات الدعم الاجتماعي عدم القيام بالاستثمارات اللازمة في مجال المحروقات، بحيث اختار النظام بسبب ضغط السلم الاجتماعي أو سياسات التحكيم في الموازنات توظيف المبالغ اللازمة للاستثمار في تجديد المحروقات واستغلالها في سياسات الإنفاق الهائلة. لكن عدم الإنفاق على الاستثمار في السنوات الـ 15 الماضية أصبح اليوم سقفاً حقيقيًّا يحول دون المواصلة في نفس سياسات الإنفاق والدعم الاجتماعيين.

وعانت الجزائر من نقص في إنتاج البترول ولم تستطع إكمال حصصها اليومية المسموح بها في اتفاقها مع منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك حيث تراجع إنتاج البترول في الجزائر من 2 مليوني برميل يوميًّا في 2005 إلى أقل من 1.5 مليون برميل يوميًّا في 2014 ليصل إلى 897 ألف برميل في 2020 و908 آلاف برميل في 2021.

كما يعاني قطاع المحروقات من تقلبات كثيرة في الأسعار بسبب العوامل الخارجية التي تؤثر عليه والتي تجعل من هذا القطاع الريعي (غير المنتج) قطاعاً سريع التأثر وغير مستدام يمكنه أن يعرّض الجزائر للتبعية الاقتصادية الخارجية التي تتحكم في أسعار المحروقات وتفرض معايير وكميات إنتاج من خلال عدة اتفاقيات (الاتحاد الأوروبي، منظمة التجارة العالمية، اتفاقيات التجارة المختلفة).

ومن المشاكل الأخرى التي سببها هذا الخيار، عدم تنويع الموارد والأنشطة الاقتصادية وتعلق النواة الصناعية تعلّقاً حيويًّا بالاستيراد، ما أدى إلى تشكيل اقتصاد ريعي يعاني من عجز هيكلي في الميزان التجاري منذ أكثر من 10 سنوات.

وهذا العجز التجاري مرتبط بعجز آخر وهو عجز الميزانية السنوية للخزينة العمومية التي ارتفعت مديونيتها من 12 بالمئة في 2010 إلى بالمئة51 نهاية 2020. وخلال الـ 10 سنوات الماضية لجأت الدولة الجزائرية إلى تغطية العجز في الميزانية وكذلك العجز المزدوج في الميزان التجاري وميزان المدفوعات باستهلاك صندوق ضبط الإيرادات واحتياطي الصرف الذي تراجع بالتالي من 194 مليار دولار في 2013 إلى حوالي 44 مليار دولار نهاية 2020.

كل هذه المؤشرات والقيود جعلت مراجعة نظام الدعم والإنفاق العمومي ضرورة آنية وحتمية اقتصادية، بحسب دراسات اقتصادية حديثة.