الحل في غزة سياسي وليس عسكريا

تقريب وجهات النظر بين حماس وإسرائيل ممارسة سياسية بلا معنى.

انتهت الجولة الأخيرة من مفاوضات القاهرة دون التوصل الى اتفاق نهائي بشأن هدنة طويلة الأمد كان الجميع يعلق عليها الآمال في أن تنهي حربا قائمة منذ 5 أشهر أكلت الأخضر واليابس في قطاع غزة واستهلكت بما فيه الكفاية من دماء الأبرياء. ومع ذلك لا تزال الفرصة قائمة ومتاحة ما دامت الحاجة لهذه الهدنة قد أضحت مطلبا فلسطينيا واسرائيليا في نفس الوقت. اسرائيل حتى وان كانت تظهر عدم اكتراثها بالتوصل الى وقف اطلاق للنار أشبه بمن يمشي معصوب العينين في حقل مليء بالألغام كلما استمرت في المشي فيه كلما ازداد الخطر، وحماس استنفدت منافع خطة كسب الوقت ولم يعد بإمكانها أن تراهن بالمزيد من دماء الشعب الفلسطيني وأن تستمر في لغة التحدي والمباراة التدميرية تجري في ملعب غزة لا في ملعب اسرائيل.

تقريب وجهات النظر بين بين حماس وإسرائيل في ظل ما يوجد من شروط تفاوضية معقدة وخلافات جوهرية حول صيغة صفقة التبادل والانسحاب البري وعودة النازحين ومستقبل غزة ما بعد الحرب أمر مستحيل وأقرب الى أن يكون مضيعة للوقت، هذا الفشل في التوفيق ما بين مقترحات الوسطاء وشروط طرفي الحرب يأتي على حساب مئات الآلاف الذين ينتظرون بفارغ الصبر أن تضع الحرب أوزارها، كان يفترض على الوسطاء أن يمارسوا المزيد من الضغط على الجانبين قبل الحديث عن جولة تفاوضية مصيرها الفشل، ما دام ميدان المعركة لم يحدد بعد الطرف الرابح والخاسر.

تأكد بما لا يدع مجالا للشك بأنه الضغط الأميركي على نتنياهو لا يعدو كونه ضغطا إعلاميا كاذبا يوهمنا فقط بان إدارة بايدن ممتعضة مما يجري في قطاع غزة وأن صبرها قد نفد بعد أن طال انتظار مهمة القضاء على حماس وأن بايدن وبلينكن حريصان على الدم الفلسطيني أكثر من حرصهما على العلاقة التاريخية التي تجمع أميركا بالدولة اليهودية. في الحقيقية ادارة بايدن فعلت كل ما يمكن فعله لتستمر الحرب وعرقلت قرارات أممية لأجل ذلك وراهنت بنجاح خطة نتنياهو في تدمير حماس مهما كلف الأمر واكتفت بمجرد حثه على أن يتم تحسين ظروف النزوح وأن يتوفر الدواء والغداء للغزيين وأن يموت الناس تحت القصف لا بالجوع والعطش.

الجانب الآخر من الحقيقة أيضا هو أن السنوار ومن معه من الذين تفرغوا وخططوا لعملية السابع من أكتوبر ربما قد تخيلوا بأن الأزمة الداخلية في اسرائيل ستربك نتنياهو ومن معه وأن وجود محور ايراني قوي قادر على الانخراط في الطوفان سيحد من خيارات جيش الاحتلال في التعامل مع ما حصل، وأن الرد الإسرائيلي لن يتجاوز اطلاق صواريخ وتدمير بعض المنشئات واغلاق معابر وسحب تراخيص عمل كإجراء عقابي وأن المواجهة لن تتعدى بضعة أيام ستضطر فيها حكومة نتنياهو مجبرة وتحت ضغط شعبي للتوصل الى صفقة تبادل تنهي مغامرة السنوار بانتصار كبير، النتيجة كانت على خلاف ما رسمه قائد حماس في الداخل والمحصلة كانت كارثية على سكان غزة وعلى حماس نفسها.

التطورات الميدانية لا تتغير كثيرا رغم مرور الوقت ورغم الفارق الشاسع في القوة بين الطرفين. إلا أن ذلك ليس عامل حسم والحرب وان استمرت يبدو أنها ستبقى مجرد لعبة كر وفر وتقدم وانسحاب، كما أن كل يوم إضافي من هذه اللعبة القاتلة يقابله سقوط المزيد من الضحايا المدنيين البعيدين تماما عن حسابات حماس وإسرائيل. ربما سيكون من الواقعية بمكان أن يقر صناع القرار في تل أبيب بأن الإصرار على حسم المعركة عسكريا قد يطول وقد لا يأتي، وأن مسألة السيطرة الأمنية الشاملة على قطاع غزة لن تنهي الصراع بل ستزيده تعقيدا. في المقابل أيضا وحتى وان تمكن الوسطاء من التوصل الى هدنة مؤقتة في الأيام المقبلة فمن المؤكد أن هذه الهدنة ستكتفي بوضع مسكنات يزول مفعولها بانقضاء مهلة الهدنة.

لا خيار متاحا للخروج من المأزق سوى بتقديم حل سياسي جاد يرسم الخطوط العريضة لما بعد الحرب، هذا إذا توفرت النوايا وتوقف صناع القرار في اسرائيل عن فرض منطقهم على الفلسطينيين بالقوة، وإذا أقرت حماس بأنه لا مناص من ذلك بعد أن أصبح من الصعب إن لم نقل من المستحيل الاستمرار في حكم غزة بنفس النهج، يحتاج هذا الحل أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية طرفا في العملية التفاوضية بصفتها تملك شرعية التمثيل الوطني، وهو ما سيسمح بطرح سيناريوهات مستقبل غزة ما بعد الحرب والتحضير للاشراف عليه من خلال سلطة فلسطينية منتخبة شعبيا بدلا من خطة إخضاعه للسيطرة الأمنية الإسرائيلية الشاملة وانتقاله من حالة الحصار الى حالة الاحتلال. لكن هذا الكلام يبقى بعيدا كل البعد على أن يتجسد في ظل ما نراه من تعنت اسرائيلي واضح ومن توجه صريح في المضي قدما نحو تتبيت سياسة الأمر الواقع.