الخيار اللبناني المرهق

مشاكل لبنان دائمة وحلوله موقتة، معضلاته عميقة وتسوياته متسرعة.
راهن الموارنة على تطور الإنسان اللبناني إلى الأمام لا إلى الوراء
لا يوجد مشروع أفضل من لبنان الكبير ولا يوجد مشروع متعثر أكثر منه

ليس الموارنة أبناء ممالك وإمبراطوريات وسلطنات، لكنهم واجهوا الممالك والإمبراطوريات والسلطنات. هم أبناء الإيمان وآباء المقاومة. آمنوا بالله والإنسان والأرض، وقاوموا الظلم والاضطهاد. الصليب رمزهم والقيامة قدرهم. الفداء رسالتهم والحياة مشتهاهم. الاستسلام خطيئة لا يقترفونها والسلام فضيلة ينشدونها. خط سيرهم هو الحرية. مهما تعرج في الأمكنة يستمر قويما في الأزمنة. سلكه الموارنة غابرا وحديثا بين الأشواك والتضحيات والشهداء والأمجاد. الحرية هي دائما وطنهم الأم. هي الريشة التي ترسم حدود وجودهم ومعيار علاقتهم مع الآخرين. نزحوا في هذه الأمة من بقعة إلى أخرى ليبقوا في ظلال الحرية، كما يتبع البحارة نجمة الصبح، والغزلان ينابيع المياه، والطيور ربيع النسمات.

نشأت المارونية بدايات القرن الخامس على مفهوم القيم. والتزمت الجماعة المارونية نمط حياة مميزا يلتقي مع إيمانها بالله وبتعاليم الإنجيل. فالقديس مارون كان ناسكا لا ملكا، ومثالا لا فيلسوفا. نمط حياته كان هو الفلسفة والكلمة والموعظة. النسك أزهر شعبا مؤسسا في لبنان، وبناء في العالم العربي، وبارزا في العالم، وصامدا في كل مكان. حين واظب الموارنة على تلك الخطى تمكن قادتهم الأوائل، وفي طليعتهم البطريركية، من تأسيس دولة لبنان، وحين تواطأ بعض قادتهم لاحقا على المفاهيم المارونية وثوابتها وقيمها وحلفائها التاريخيين، عرضوا هذه الدولة البهية للخطر. لا يجوز للذين في ما مضى سحبوا لبنان من فم سايكس/بيكو أن يقدم اليوم بعضهم على تقديم لبنان إلى مؤامرة إقليمية تقضي عليه.

قبل تأسيس دولة لبنان الكبير، انتشر الموارنة في كل لبنان شهادة على قدرتهم على الشراكة مع المسلمين والدروز. لم ينقلبوا على محيطهم أكان سنيا أو درزيا أو شيعيا. خدموا إمارة الجبل، رفعوا رايتها، وعززوا استقلالها الذاتي وكانوا أركان جيشها وديبلوماسيتها. كل ما تعرضوا له في القرون السابقة لم يثنهم عن مبدأ التعايش المسيحي ــــ الإسلامي. اختاروا الكيان اللبناني الطبيعي رغم عروض أخرى أسهل كانت متوافرة. لكنهم أصروا، آنذاك، على "لبنان الكبير" لأن هذا هو لبنان وهؤلاء هم اللبنانيون.

فكرة لبنان الكبير التي أصرت عليها البطريركية المارونية احتضنت جماعات وحدها الله قبل أن توحدها الأرض ريثما يوحدها الوطن والدولة. راهن الموارنة على تطور الإنسان اللبناني إلى الأمام لا إلى الوراء، ونحو الحضارة لا نحو الجهالة. خرق لبنان رتابة الشرق وأحديته فالتقطته الصراعات اللاحقة اللامتناهية قبل أن يشتد عود الدولة الفتية. كانت الفكرة خيارا مقداما ورهانا رائدا. لم يأت لبنان الكبير مبكرا ولا متأخرا. لو لم يتحقق سنة 1920 لما كان سيتحقق بعد ذلك. ولا أدل على ذلك سوى ما آل إليه لبنان اليوم: 10452 طعنة في جسمه.

ظننا أننا نجونا بهذه الدولة المعجبة بنفسها ونجحت المغامرة. لكن ما إن التقطت صورة التأسيس حتى قامت التظاهرات ضدها. وما إن أنهيت معاملات الاستقلال حتى بدأت تتعرض لانتكاسات عوض أن يثبت الاستقلال دعائمها، وما إن ثبت دستورها في "الطائف" حتى بدأت لعبة الطوائف والمذاهب، وعن على بال البعض إرجاعنا إلى ما قبل التأسيس. في زمن الرجعية ذاك، سنة 1920، قدم الموارنة مشروعا لبنانيا تقدميا، وفي زمن التقدمية هذا، سنة 2022، يجاهد البعض ليفرض مشروعا غريبا رجعيا.

لا يوجد مشروع أفضل من لبنان الكبير ولا يوجد مشروع متعثر أكثر منه. تحولت أزمات لبنان جزءا من انقلاب مستمر على الفكرة اللبنانية والخصوصية والهوية والدور والرسالة والنظام. الجميع ـــ بمن فيهم الموارنة طبعا ـــ اشتهوا صلاحيات قريبهم، والجميع طمعوا بما لله وبما لقيصر أيضا. غلب الطمع الطموح. لم يعزف اللبنانيون على وتر واحد، ولم ينشدوا نشيدا واحدا، ولم يرفعوا علما واحدا. لم يكونوا جميعا على مستوى دولة لبنان الكبير ولا على مستوى الأديان. لم يقدر لبنانيون شأن لبنان، وشرف انتمائهم إلى هذا الكيان الخاص، وقيمة ما بين أيديهم من أمانة. بعضهم أراده أصغر وبعضهم الآخر أراده أكبر وآخرون أرادوه بين بين.

ولما اعترف الجميع بنهائية الوطن اللبناني، رغبت فئات متعددة الجنسيات الطائفية امتلاكه على حساب الذين صنعوه ـــ وهم من كل الطوائف ــــ وسهروا عليه، وصقلوا سمعته، ورفعوه بين العرب وسائر والأمم، ودافعوا عنه هو فقط لا غير. ولما اعترفوا بحدوده سيبوها: جعلوا جنوبه جبهة عسكرية مفتوحة، وشرقه جبهة تهريب مختلف على مدار الجوار. يدفع لبنان الكبير ثمن كماله مثلما دفع كملة هذا الشرق حياتهم فداء خياراتهم وتعاليمهم السامية.

صارت مشاكل لبنان دائمة وحلوله موقتة، صارت معضلاته عميقة وتسوياته متسرعة. نشأ لبنان ليكون دولة فإذا به دويلات. حبل به شعبا واحدا فإذا به شعوب. انبثق حالة وحدوية ذاتية فإذا به اليوم حالة مفتتة ومبعثرة نلملمها في حكومات توافقية وتسويات مدبلجة سرعان ما تفشل وتسقط. لإنجاح أي حوار وطني جديد في المستقبل، نحتاج جميعا إلى وقفة ضمير وطنية، إلى فسحة تأمل وجداني، إلى مراجعة مواقفنا وخياراتنا وسلوكياتنا، إلى الاعتراف، تجاه ذواتنا على الأقل، بأخطائنا وذنوبنا تجاه لبنان وتجاه بعضنا البعض. نحب بعضنا البعض ونتقاتل، ونستشهد في سبيل لبنان ونهدمه. منطق ولا أغرب! لذا، مثلما كان مشروع لبنان الكبير فكرة تستحق التجربة، هكذا دولة لبنان الكبير تجربة تستحق الإصلاح.

لكن، مهما نشأت أشكال دستورية جديدة، بما فيها الشكل الاتحادي، سيبقى الموارنة مخلصين لفكرة التعايش. ومهما تعرض لبنان للتشويه سيبقون حريصين على دور لبنان التاريخي، يحتضنونه حيث هم، وهم في كل لبنان. ومهما تغير الشرق وتبدلت أنظمته وتعدلت حدود دوله، سيبقى الموارنة يدافعون عن حدود لبنان، عن الـ10452 كلم مربع في إطار اللامركزية الموسعة والحياد والسيادة.

تصميم الموارنة على الحياة مع الآخر مشروط بدولة القانون وبسلم قيم ومبادئ حددها غبطة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في عظة عيد مارون (9 شباط/فبراير). أما إذا حصل استغلال الحياة المشتركة لإضعاف الدور المسيحي عموما والماروني خصوصا في لبنان، فردة فعلنا لن تكون: "من ضربك على خدك الأيمن أدر له الإيسر".