السياسي الخائب لا يصنع مستقبلاً

لا نرى في الهبوط الثّقافي في العراق إلا إلغاء المستقبل، بل ولا النظر في مشكلات الحاضر، بسبب طغيان الخطاب الماضويّ سلبياً.

عندما دعتني إحدى القنوات للمشاركة في ندوة عن «معركة واترلو»، بذكراها المائتين (1815-2015)، اعتذرتُ، لعدم ضلوعي في التّاريخ الأوروبيّ، بعدها وافقتُ بشرط اختصار الحديث على الفِرق بين احتفالاتهم واحتفالاتنا بالماضي! فلم تُثار المواجع بين بريطانيا وفرنسا، إنما عرضوا ما في المُتاحف مِن أسلحة المعركة، وملابس المقاتلين، بمعنى كان الاحتفال ثقافياً تُراثياً، يُشاهد تقاليدَ لا عقائدَ.

بينما يجري تذكر الماضي عندنا بنبش الضَّغائن، وكأنها اليوم، فالآلاف شاهدوا المحكمة التي أُعدت لهشام بن عبدالملك (ت: 125هج)، والمدعي كان زيد بن عليّ (قُتل: 122هج)، أقامتها مؤسسة أكاديميّة في عصر الانحطاط، بحضور رئيسها وجمهور الأكاديميين والطَّلبة، وصدر الحُكم على رمة العظام، التي سبق أنّ أخرجها العباسيون وأحرقوها (البلاذري، جمل مِن أنساب الأشراف).

هذا الدّرس (الأكاديميّ) يؤخذ حقيقةً واقعةً، شأنها شأن تمثيل شخصية قاتل الإمام الحُسين، على أنه حقيقةٌ، لذا نزل المتفرجون إلى ساحة العرض للقصاص منه! بين حين وآخر يظهر السّياسي، مستذكراً معركة صفين(37هج)، مستعرضاً مواقف عمرو بن العاص (ت: 42هج) فيها، بينما ابن العاص، أخطأ أو أصاب، أدخل الإسلام إلى مصر، ولولاه ما كان للجميع مذاهبٌ بها.

نسأل هذا السّياسيّ: هل كنت مؤرخاً أم رئيس حزب، ينتظر المواطن منك حل معضلات الحاضر وتطلعات المستقبل؟ فإذا كنت مؤرخاً، فلا تسع المؤرخ السّياسة. عندما أشتد التّطرف، خرج علينا مَن يُعلل النِّزاع بالقول: «معركتنا بين يزيد والحُسين»!

بينما كان النّاس ينتظرون تحسن الأحوال، وإذا به يصب الزّيت على النَّار، ويُقدم نفسه أنه «مختار العصر»، و«المختار» صار رمزاً لثارات العلويين، مع أنه قد قتل أحد أبناء علي بن أبي طالب، عبيد الله(67ه)، ويتداول الآن البعض العمل على محاكمة الرَّاشدين والأمويين.

ما حصل كان تطبيقات لـ«بحار الأنوار» (110مجلدات) حرفياً، كتاب أبرز فقهاء الصّفويين محمد باقر المجلسيّ (ت: 1699)، تطبيق حكايات اخترعها رواتها وأدامها المعاصرون، ومنها عندما يخرج المنتظر ينبش قبوراً، ويصلب ويحرق عظاماً، حتّى طغى «بحار الأنوار» ثقافيَّاً، وظلامه لم يبقِ للنور كوةً. تنتشر ثقافةٌ سلبيّةٌ في المجتمع، ولا يبدو الغلو، الممارس هذا العام، بعيداً عن نية نصب محاكمٍ للأقدمين، لإشاعة روح الانتقام، ببلد أرهقه تعاقب الانتقام، ولله دُر القائل: «فما بالُ كفِّ القضا لا تدورُ/ على بلدٍ ظلَّ حتَّى اختزى» (الجواهريّ، المقصورة)، وهل مِن خزي أكثر مما نرى ونسمع؟ لا يبدو أنَّ المتنفذين قد ميزوا بين منبر العزاء الحُسيني ومنبر السُّلطة، فإذا لم يساهموا في ثقافة الانتقام نراهم يسكتون عنها، والسّكوت علامة الرّضى.

لا نرى في هذا الهبوط الثّقافي إلا إلغاء المستقبل، بل ولا النظر في مشكلات الحاضر، بسبب طغيان الخطاب الماضويّ سلبياً، حتَّى الحُسين بن عليّ يُقدمه هذا الخطاب كائناً غريباً لمحبيه، وهو بهذا الغلو الخارج عن المنطق والعقل!

حتَّى دخلت هذه الثّقافة رياض الأطفال والمدارس. سيظهر جيلٌ كسيحٌ، لا شأن له إلا الخُرافة، وبطبيعة الحال أن يكون حاضرنا ومستقبلنا معركة بين يزيد والحسين، ونصب محاكمات لمَن صار في ذمة الماضي، قبل أربعة عشر قرناً، أنها أعلى درجات الخُرافة، وأحطُ مستويات العقل. ليس لنّا إلا القول: عندما يصر السِّياسي على هذا النّهج، غير تشخيصه بالخائب، والسِّياسي أو الحزبي الخائب تراه بارعاً في نسج الوهم والخرافة، لا شأن له بصناعة المستقبل، له بأحداث غدت رميماً. لينظر الخائب في ما قاله ابن شرف القيرواني (ت: 460هج) قبل ألف عام، خالعاً ثياب الماضي بأحقاده وضغائنه، كي لا يُحطم الحاضر والمستقبل: «ولَعَ النَّاسُ بامتِدَاحٍ القَدِيمِ/ وبذَمِّ الجَدِيد غيرَ الذَّمِيمِ/ ليسَ إِلا لأَنَّهم حَسدُوا الحَيَّ/ ورقُّوا على العِظامِ الرَّميمُ» (الشُّريشيُّ، شرح مقامات الحريريِّ).