السينمائي نجيب محفوظ

أول اديب عربي حائز على نوبل: أمي لم تدخل السينما إلا مرة واحدة لمشاهدة فيلم 'ظهور الإسلام' بعد أن وصل إلى مسامعها أن من يشاهد هذا الفيلم يكون بمثابة من ذهب لأداء فريضة الحج، وبما أنها لم تتمكن من الحج ذهبت لمشاهدة الفيلم.

"أمي لم تدخل السينما إلا مرة واحدة لمشاهدة فيلم "ظهور الإسلام" بعد أن وصل إلى مسامعها أن من يشاهد هذا الفيلم يكون بمثابة من ذهب لأداء فريضة الحج، وبما أنها لم تتمكن من الحج ذهبت لمشاهدة الفيلم".

هكذا يقول نجيب محفوظ عن والدته التي لم تدخل السينما سوى مرة واحدة في حياتها. أما هو فأول فيلم شاهده في حياته فكان لشارلي شابلن، وكان ذلك عام 1916 وعمره خمس سنوات، شاهده خمس مرات، في سينما بيت القاضي، وكان يخرج منها جريًا على "خان جعفر" معتقدا أن الممثلين وراءها. والشجيع في السينما هو أي واحد، "لم نكن بعد نحفظ أسماء الممثلين. لم أكن أبدا أريد أن أرجع إلى البيت، بل كنت أتمنى أن أنام في السينما".

وعندما كان يجئ إلى الإسكندرية كان يرتاد معظم قاعات السينما بها، وكانت هناك سينما اسمها "ماجستيك" تفصل بين المصريين والأجانب، "حتى لا ننجّس الخواجات"، كان عمره 25 عاما، وكان الأجانب كثيرين في الإسكندرية، وينظرون إلى المصريين كشعوب منحطَّة، حيث كانت توضع يافطة - قبل إلغاء الامتيازات - تقول هذا المكان لأهل البلد، وبقية المكان للخواجات. "ورأيت في هذا احتقارا لنا".

وعندما تعرف على المخرج صلاح أبوسيف، تعلم منه كيفية كتابة السيناريو، فوضع ما لا يقل عن عشرين فيلمًا مصريًّا في القالب السينمائي. كتب لها السيناريو والمعالجة، هو وحده، وبالاشتراك مع آخرين. وأفلامه التي لا ينساها من هذه القائمة الطويلة للسينما، هي الأفلام التي أجمع الخبراء الراسخون في عالم السينما أنها ستسقط حتمًا، مثل "لك يوم يا ظالم" و"ريا وسكينة".

ولنجاح أفلامه مع صلاح أبوسيف قيل: "إذا كان صلاح أبوسيف قد علَّم نجيب محفوظ الصنعة، فقد منحه نجيب محفوظ الشخصية، وبمعنى أدق كان نجيب محفوظ هو الجانب الأدبي من صلاح أبوسيف الذي ينقصه لتكتمل به شخصيته الفنية".

في عام 1959 (مجلة الاثنين) كان نجيب محفوظ يرى أن السينما، تعيش في فترة الاقتباس مثل الموسيقى، وهي لم تكد تبدأ في التعبير عن واقعنا المصري، ولذلك لم يكد يبدأ أيضا أدب سينمائي أصيل، ولكنه يجد طلائع خير في اعتماد السينما على قصص مصرية أصيلة مثل مؤلفات يوسف السباعي وأحسان عبدالقدوس.

وفي عام 1956 يوضح لسعاد زهير (مجلة روزاليوسف) أن رسالة القطاع العام بالنسبة للسينما ليست صب الفن السينمائي في قوالب، فمؤسسة السينما تنتج جميع أنواع الأفلام، ما عدا الأفلام الضارة، فهي وحدها الممنوعة.

وهو ينصح الكابتن محمود الخطيب (الطليعة 1977) إذا عرضت عليه السينما لا يرفض بشرط ألا يعتمد على شهرته كلاعب فحسب، فيجب أن يكون لديه موهبة التمثيل. "الجمهور حيروح علشان الاسم، وبعد دقائق من بداية الفيلم يبحث عن الممثل، فإذا كانت لديك الموهبة فلا تتردد، وبشرط أن تقدم وتحصل على ما يوازي اسمك". لكن محمود الخطيب لم يكرر تجربة صالح سليم في السينما، ولم يقرب منها.

وهو يقول لصالح مرسي (المصور 1984) إن النظر إلى السينما من وجهة نظر فردية، ما الذي صنعته في أعمالي أو ما إلى ذلك، خطأ، بل يجب أن ننظر لها نظرة عامة، والذي لا شك فيه: إن السينما لها فضل كبير علي، فمهما كان تعبيرها عني، فيجب أن نعرف أن كتبنا إذا كانت تبيع بالآلاف، فلقد قدمتها السينما إلى الملايين من أبناء هذا الشعب. ثم يوضح أكثر: إن المستوى الحضاري كل لا يتجزأ، ولا ننتظر أن نكون في هندسة الكباري شيء، وفي السينما شيء آخر، اشمعنى السينما؟ ولماذا نطالب بسينما عالمية، وليس لدينا أدب عالمي أو علم عالمي؟

ويؤكد لصالح مرسي أن المشكلة التي تواجهها السينما ويواجهها المسرح الآن، هي نوعية معينة من الجهور، وهم لا يستطيعون تجاهل هذا الجمهور، ولكن يجب أن تتعامل معه معاملة لبقة وذكية. أرى ما الذي يريده هذا الجمهور، ثم أقدمه له في أسلوب محترم، فالأدب جمهوره غير جمهور السينما. "البلد كلها إما أميين، أو متعلمين غير مثقفين، هؤلاء هم الذين لا يقرأون الأدب".

وعندما يقول لمصطفى نصر (ضاد 2012) إن تجربته مع السينما لا يعتبرها من تاريخه الأدبي. يقول له نصر: كيف؟ لقد كتبت فيلم "درب المهابيل" وهو في رأيي من أهم إنجازات السينما المصرية حتى الآن. فيرد عليه نجيب محفوظ قائلا بعد تردد: عندك حق، هو فيلم يستحق أن أعتز به.

ويقول لحسن شمس (صوت أمريكا، ثم روزاليوسف 2012): ما لا يعرفه الكثيرون هو أنه توجد في حي الحسين سينما من أقدم دور السينما في مصر، هي دار سينما الكلوب المصري، دخلتها تقريبا وأنا في سن الخامسة، وربما أقل، كانت تعرض أفلام رعاة البقر التي كنت أعشقها، وتختم بأفلام كوميدية أمريكية كأفلام شارلى شابلن، وكنت دائما أتمنى أن أنام وأنا في السينما.

وعن سر عدم كتابة محفوظ سيناريوهات للأفلام المأخوذة عن رواياته يقول لحسن شمس: هذا ليس بالشيء الغريب، لأن عندما يكتب لي أحد سيناريو عمل من أعمالي، يكون بعيدًا عن سطوة الأحداث والشخصيات عليه، والتي تستولي دائما على من كتبها، لذلك أغلب رواياتي التي تحولت لأفلام كتبها آخرون ممن يفكرون تفكيرًا سينمائيًّا حرًّا، ولو كنت أنا من كتبها فستكون سيناريوهات فاسدة. طُلب مني أن أكتب للسينما قصة سيناريو، فكتبتُ ريا وسكينة ودرب المهابيل، فكانت قصصًا سينمائية.

ويعالج هاشم النحاس مشكلة العلاقة بين الفيلم والرواية المأخوذة عنه، عند نجيب محفوظ. ويختار في كتابه "نجيب محفوظ على الشاشة" فيلم "بداية ونهاية" باعتباره أصدق الأفلام المأخوذة عن روايات محفوظ.

ولكن قبل هذا يتحدث النحاس عن دور نجيب محفوظ في السينما المصرية بعامة، ويزعم أن انتشار محفوظ عن طريق السينما رفع من انتشاره في مجال الأدب نفسه. ويؤكد أن نجيب محفوظ أول أديب يكتب للسينما، وأنه أكثر الأدباء المصريين أعمالا في  السينما. وقد بلغت الأفلام التي أخذت عن أعماله الأدبية المنشورة (قصة أو رواية) 36 فيلما (حتى تاريخ صدور كتابه في طبعته الثانية عام 1990).

وأثناء رئاسته لمؤسسة السينما، كان نجيب محفوظ عضوا في العديد من اللجان بحكم الوظيفة. وكان قبلها مديرا للرقابة بقرار من ثروت عكاشة وزير الإرشاد القومي عام 1959 فاتخذ قرارًا بالامتناع عن كتابة السيناريو لأي من شركات السينما التي اعتاد أن يكتب لها قبل اختياره لهذا المنصب. واجتهد لأن يجعل الناحية الفنية في المقام الأول من مهمة الرقابة، فالأصل في الفن الإباحة وليس المنع، كما نجح في أن يمنع الرشوة في هذا المجال، ولم يمض وقت طويل حتى أصبح تمرير السيناريوهات عن طريق الرشوة من ذكريات الماضي، لدرجة أن أحد ضباط الشرطة من العاملين في جهاز الرقابة أعرب لمحفوظ عن دهشته، ليس لأنه لا يقبل الرشوة، وإنما لأنه استطاع أن يمنع الرشوة في الجهاز الرقابي كله. إن شركات الإنتاج لم تعد في حاجة إلى رشوة الرقباء، لأنها شعرت أن الرقابة أصبحت مع الفن، ولا تقف في طريقه أو تتعالى عليه بشكل متعسف.

وأثناء عمله بالرقابة اتصلت على به السيدة تحية زوجة الرئيس جمال عبدالناصر تطلب فيلمًا معينا لتشاهده في منزلها مع بعض ضيوفها، فقال لها – بعد أن رحب بها – إنه لا يحتفظ بالأفلام في منزله.

غير أنه تم إبعاده من هذا المنصب الذي شغله لمدة عام تقريبا، وتحديدا في الفترة من 31 / 1 / 1959 إلى 7 / 1/ 1960 بعد هجومٍ شنّه أحد الوزراء أثناء أحد اجتماعات مجلس الوزراء، وهو الدكتور حسن عباس زكي (وزير الاقتصاد)، على الدكتور ثروت عكاشة، وكانت وجهة نظر عباس أن الدكتور عكاشة أسند مهمة الرقابة لرجل متهم في عقيدته الدينية (بسبب رواية "أولاد حارتنا"). وفي تلك الأثناء تعرض لمواقف كان بعضها أشبه بمسرحية هزلية، ففي أحد الأيام اتصل به مدير مكتب كمال الدين حسين (وكان وزيرًا للتربية والتعليم) وفوجئ به يبلغه لوم الوزير، لأنه سمح بعرض "أولاد حارتنا" على المسرح القومي، ولم تكن الرواية تحولت إلى مسرحية، واكتشف محفوظ أن كمال الدين حسين خلط بينها وبين "بداية ونهاية" التي كانت تعرض آنذاك بالفعل على خشبة المسرح القومي، ولوضع حد للمشاكل طلب منه الدكتور ثروت عكاشة ترك الرقابة والانتقال إلى رئاسة مؤسسة دعم السينما التي كانت تحت الإنشاء، وكان مقرها 68 شارع القصر العيني (العمارة التي كان يوجد بها نادي القصة) أما إدارة التوزيع فكانت تقع في 18 شارع البورصة بالتوفيقية.

أثناء العمل اكتشف نجيب محفوظ أن بعض الأفلام المصرية تُعرض في أستراليا وعليها ترجمة باللغة اليونانية، وبالتالي فهي مصدَّرة من اليونان إلى أستراليا رأسًا، وذلك من خلال خطابات سفارتنا بأستراليا التي اقترحت أن تقوم مؤسسة دعم السينما باختيار الأفلام التي تحترم سمعة مصر بترجمة إنجليزية.

أيضا أثناء العمل اختلف مع مدير الرقابة على الأفلام محمد علي ناصف، لأنه سمح بعرض فيلم سينمائي أجنبي يسيء إلى اليابان، وكاني يرى ضرورة منعه من العرض، فاليابان في ذلك الوقت كانت قد وقفت إلى جانب مصر والرئيس جمال عبدالناصر، وساندتنا ضد الولايات المتحدة الأمريكية، مما وضع اليابان في موقع الرضا والصداقة من النظام والشعب في مصر، واستند محمد علي ناصف في موقفه على العلاقة القوية التي تربطه بالمشير عبدالحكيم عامر، وسمح بعرض الفيلم. في اليوم الأول للعرض – بعد حفلة العاشرة صباحا – في دور السينما، كان السفير الياباني في مكتب جمال عبدالناصر لتقديم احتجاج على عرض الفيلم، وأمر عبدالناصر برفع الفيلم من دور العرض فورًا، وبالفعل لم يعرض في حفلة الثالثة من بعد الظهر في اليوم الأول نفسه، وحدث ارتباك لدى هذه الدور، خاصة أن الجماهير حصلت على تذاكر حفلة الثالثة، مما اضطرها إلى رد ثمن التذاكر وإلغاء العرض.

وصدر قرار وزير الثقافة ثروت عكاشة رقم 228 بتاريخ 7/12/1967 بتشكيل لجنة تسمى "لجنة اختيار وتنسيق عرض الأفلام الأجنبية" برئاسة نجيب محفوظ وعضوية أحمد بدرخان والدكتور مجدي وهبة ومصطفى درويش وطارق شرارة تختص باختيار الأفلام العالمية الممتازة وتنسيق عرضها داخل الجمهورية العربية المتحدة على الوجه الذي تراه محققًا لأهداف وزارة الثقافة، ومن مهامها أن تلاحظ الموازنة في نوعيات الأفلام وأوقات عرضها حتى لا تسيطر نوعية معينة – هندية، عنف، إثارة، جنس – على دور العرض.

أيضا كانت هناك أزمة في أغاني المطربة صباح، ففي أحد أفلام المخرج عزالدين ذوالفقار رأى نجيب محفوظ حذف بعض الأغاني لها، لأنها تؤديها بطريقة مثيرة، وألحان عبدالوهاب لهذه الأغاني كان فيها إثارة فاضحة، ولأن عزالدين ذوالفقار كانت له علاقة قوية بالضباط الأحرار، فقد استطاع بنفوذه استصدار قرار بتشكيل لجنة للفصل في أمر تلك الأغاني، وأيدت اللجنة قرار نجيب محفوظ في موقفه بإجماع الآراء، وأقرت بضرورة حذف هذه الأغاني.

وسط هذه الأزمات الوظيفية كان محفوظ ينتظر بفارغ الصبر حلول الصيف ليهرب إلى الإسكندرية، سواء بمفرده أو مع أسرته، على الرغم من أنه ليس من محبي الأجازات، إلا للأمور الضرورية، وعادة ما تكون أمورًا عائلية، مثل وفاة الوالد، أو بعض المتاعب الصحية الطارئة، فمتعته كانت في عمله دائما، لكنه كنت حريصًا على أجازته الصيفية الطويلة التي يقضيها في الإسكندرية، حيث يشعر بالتجدد والنشاط والحيوية، ويمارس هوايته في التفكير والتأمل، ولقاء أصدقائي السكندريين من الأدباء والفنانين أو حتى الأشخاص العاديين.

إن نجيب محفوظ كان يجد دائما في الإسكندرية متسعًا للتفكير.