الصراع من غير أفق في بلد العجائب

ألا يحق لسكان البصرة أن يقارنوا بين أحوالهم وأحوال أشقائهم في الكويت؟

لا تزال الانتفاضة الشعبية في العراق محصورة في إطار المطالبة بتحسين الخدمات الأساسية وفي مقدمتها الكهرباء والماء الصالح للشرب وخفض مستوى البطالة ومن ثم التقليل من بشاعة مشاهد الفقر الفاضح.

غير أن عجز الحكومة المتوقع عن تلبية تلك المطالب سيفتح الأبواب على الحقائق السياسية المريبة التي لم يكن الشعب يملك الوقت للتعامل معها بطريقة جادة، تمكنه من الانقضاض على تلك الشرعية الكاذبة التي كان سياسيو بغداد وما زالوا يتمترسون وراءها.

حتى هذه اللحظة لا يزال المتظاهرون السلميون حريصين على التماس بطريقة حيية بمظاهر الفساد التي حطمت سبل عيشهم وجعلتهم غير قادرين على فهم تلك المعادلة التي تجعل من مدينة نفطية كالبصرة فقيرة إلى درجة مخجلة في حين تتمتع مدينة نفطية كالكويت التي لا تبعد عنها إلا بضعة كيلومترات بثراء لا تخطئه العين.

ألا يحق لسكان البصرة أن يقارنوا بين أحوالهم وأحوال أشقائهم في الكويت؟

هناك هوة سحيقة تفصل بين المدينتين.

من العار المضي في التفاصيل.

لقد تم اختراع الحكومات المحلية بعد الاحتلال الأميركي وهو ما لم يعرفه العراق في تاريخه الحديث. كان ذلك الاختراع مناسبة قامت الأحزاب الدينية من خلالها بالاستيلاء على الثروة الوطنية وتوزيعها على منتسبيها من غير النظر إلى ما يحتاجه الناس في حياتهم اليومية.

تعاملت الأحزاب الدينية مع أموال الشعب باعتبارها جزءا من رصيد خاص، يحق لها أن تتصرف به كما تشاء.

كان على أصحاب الثروة الحقيقيين أن يعترفوا بأنهم هُزموا في حرب لم يكونوا طرفا فيها ليتخلوا عن ثروتهم التي صارت من حصة الطرف الذي انتصر عليهم.

في البصرة بالتحديد انتصرت الأحزاب الدينية على الشعب وأذلته.

وما هروب محافظ البصرة السابق إلى إيران بعد أن طالته تهم الفساد إلا دليل على أن الأحزاب الدينية المرتبطة بإيران كانت ولا تزال مهيمنة على البصرة التي تنظر إلى شقيقتها الكويت بحيرة.
لا أعتقد أن حكومة بغداد في إمكانها أن تنهي التظاهرات الشعبية إلا بالعنف. وهو ما سيؤدي إلى أن يُعلي المتظاهرون من سقف مطالبهم.

سينتقل المتظاهرون من مطلب اسقاط الحكومة المحلية إلى مطلب اسقاط الحكومة الاتحادية المسؤولة عن عمليات الفساد.

غير أن ذلك التحول هو الآخر لن يُخيف أحدا من أهل الحكم في بغداد. فالحكومة الحالية هي حكومة تصريف أعمال بعد أن انتهت ولايتها من غير أن تتمكن الأحزاب الحاكمة من الاتفاق على تشكيل حكومة جديدة.

قد يكون التعبير غير مناسب إذا قلتُ إن الصراع بين الشعب المنكوب والأحزاب الحاكمة عبثي ومن غير أفق.

فالأحزاب التي استولت على الدولة وتقاسمت الثروة في ما بينها نجحت في إقامة منظومة فساد متماسكة، من خلالها لن يستطيع أحد توجيه ضربة إلى أحد آخر. الطبقة السياسية كلها متورطة في عمليات الفساد حين تمكنت من الاستيلاء على المال العام بطريقة لا تسمح بتسربه إلى الدولة لتصريف شؤون الخدمات العامة.

ولأن الحياة السياسية في العراق مغلقة على الأحزاب التي يوالي معظمها إيران فإن الانقلاب عليها هو نوع من الخيال الذي لا ينسجم مع حاجة الشعب الماسة إلى أية نسبة، مهما كانت ضئيلة من الخدمات الأساسية.

وهو ما يعني أن أي تنازل تقدمه الأحزاب، مهما كان صغيرا سيؤدي إلى انفراج الأزمة ولو مؤقتا.
لقد تم تطبيع الفساد وصار هناك من ينظر إليه باعتباره قدرا لا مفر منه.

وهو ما لا يمكن توقع حدوثه إلا في العراق الذي شهد أهوالا متلاحقة عبر عقود من الزمن لم يشهدها بلد آخر.

يسخر السياسيون وفي مقدمتهم رئيس الوزراء حيدر العبادي من الشعب حين يتحدثون عن حقه في التظاهر وهو حق ضمنه الدستور، حسب قولهم. غير أن أحدا لن يكون في إمكانه الانصات إلى مطالب أصحاب ذلك الحق وتنفيذها.

وهو ما يذكر بحقيقة أن فاسدا كبيرا واحدا لم يُقدم حتى اللحظة الى العدالة بالرغم من أن مئات المليارات التي نهبت تشير بأصبع الاتهام إلى السياسيين تهيأت لهم فرصة وضع تلك الأموال تحت تصرفهم مباشرة من غير رقابة تُذكر.

لقد قال الشعب كلمته غير أن تلك الكلمة ستظل محلقة في الهواء ولن تطأ الأرض. ذلك لأن الشرائح المستفيدة من الفساد وفي مقدمتها الطبقة السياسية ليست مستعدة للتراجع عن مكتسباتها التي تلتهم كل موارد العراق المالية، بل أن الدولة تستدين أحيانا من أجل أن تفي بالالتزامات التي فرضت عليها بقوة القوانين التي شرعها الفاسدون بأنفسهم.

وليس من قبيل الفكاهة السوداء القول "إن تلك القوانين أقرت ديونا مستحقة على العراقيين لحساب فئات طفيلية تم تصنيفها باعتبارها فئات متضررة من النظام السابق. من تلك الفئات ما سمي بالسجناء السياسيين ومنتسبو مخيم رفحا الذين سبق لهم أن عاثوا بالعراق فسادا عام 1991 وأعضاء حزب الدعوة ومناصروه الذين عاشوا جل حياتهم في بلدان اللجوء الأوروبية برفاهية لا يمكن مقارنتها بحياة الضنك التي عاشها العراقيون تحت الحصار الدولي".

العراق الذي يدفع أصلا تعويضات إلى الكويت بسبب الغزو صار مضطرا إلى دفع تعويضات إلى تلك الفئات الطفيلية التي هبطت عليها من السماء نعمة وجود حزب الدعوة حاكما مطلقا في العراق.

فهل يمكن أن يتراجع سياسيو العراق عن القوانين التي أقروها من أجل لا تملك الدولة فرصة لإعادة اعمار البنية التحتية التي دمرتها الحروب؟

أمر من ذلك القبيل لن يقع حتى لو أضطر سكان المنطقة الخضراء وهي منطقة الحكم إلى مغادرة العراق عائدين إلى الدول التي تقيم فيها عوائلهم وينتسبون إليها باعتبارهم مواطنين.

سيبقى صراع الشعب مع سياسيي أحزاب الطوائف من غير أفق إلى أن ينظم الشعب حراكه من خلال أحزاب معارضة حقيقية، يكون هدفها عودة العراق إلى أبنائه.