الصوت التأسيسي

فئات لبنانية لا تتصرف كمكونات متحدة في وطن وكيان ودولة حول مبادئ الديمقراطية والحرية والشراكة والحضارة، بل ككتل بشرية جـمعتها الصدفة أو العنوة في هذه الأرض.
جميع صراعاتنا في القرنين الـ20 والـ21 تنتمي إلى ما قبل نشوء دولة لبنان الكبير
فشلنا في خلق ضمير وطني يشكل مرجعية الحلول ويبقي الخلافات السياسية تحت سقف الدولة

هل ينحصر تأثير الانتخابات النيابية هذه المرة على النظام اللبناني أم يمتد إلى الكيان اللبناني؟ في الدول الديمقراطية المكتملة التكوين الوطني يقتصر تأثير الانتخابات على تداول السلطة بين الأكثرية والأقلية، ولا يطال النظام ولا الكيان. هكذا كانت الحال في لبنان حتى انتخابات 1992 التي انعكست على النظام بوجهيه الدستوري والميثاقي، وانتخابات هذه السنة، 2022، التي ستنعكس حتما على النظام، وربما على الكيان. فلا ندع الحملات الانتخابية الفائضة والبرامج الشعبوية المدبلجة تخدعنا وتبعدنا عن جوهر الاستحقاق الانتخابي.
انتخابات 1992 أنتجت برلمانا عدل نظام لبنان وسط مقاطعة مسيحية وطنية شبه شاملة. فما تـم التصويت عليه آنذاك لم يكن تطبيقا أمينا لنص اتفاق الطائف وروحه، إذ إن "وثيقة اتفاق الطائف" وضعت سنة 1989 في ظل رعاية سعودية/أميركية، بينما دستور الطائف أقر سنة 1992 في ظل الاحتلال السوري. أما الانتخابات المقبلة فيتنازعها طرفان: طرف يريد تغيير النظام لتشريع الواقع الشيعي/الإيراني الجديد، لكنه لا يدري إلى أي مدى يستطيع أن يذهب في "الشيعية الموسعة". وطرف يريد تغيير النظام لتشريع واقع التعددية الجديد، لكنه لا يدري أيضا إلى أي مدى يستطيع أن يذهب في الحياد واللامركزية الموسعة. 
الصراع على هذين "المديين" يمكن أن يؤثر لاحقا على وحدة الكيان ما لم يتحول الطرفان ـــ معا ـــ إلى أم الصبي وأبيه. جميع الخيارات مفتوحة في غياب الضابط الوطني وعدوى التحولات الكيانية والديمغرافية في الشرق الأوسط. إن الجزية الوطنية التي سيدفعها اللبنانيون في حال فاز مـحور الممانعة في الانتخابات النيابية المقبلة ستكون مرتفعة أكثر من تلك التي دفعوها بعد التسوية الرئاسية سنة 2016. فما لم يتمكن ميشال عون من أن يشرعه لحزب الله حتى الآن، سيحاول حزب الله أن يشرعه بنفسه لنفسه بعد الانتخابات النيابية. 
مذ تأسست دولة لبنان، لم يتوافق اللبنانيون على تعديل دستور أو حل أزمة أو وقف حرب من دون حضانة أو رعاية أو وصاية دولية مباشرة أو عبر طرف عربي. حتى نشوء دولة لبنان الكبير ما كان ليحصل دون رعاية فرنسية مباشرة وعلنية، ولا كان نيل الاستقلال ليتيسر دون دعم بريطاني من وراء الستارة. لقد فشلنا في خلق ضمير وطني مشترك يشكل مرجعية الحلول، يعزز وجود لبنان كدولة/وطن، ويبقي الخلافات السياسية تحت سقف الدولة. جميع صراعاتنا في القرنين العشرين والحادي والعشرين تنتمي إلى ما قبل نشوء دولة لبنان الكبير، وتغوص جذورها في الغابر من القرون. فيها شذا المدائن الفينيقية وروائح الفتوحات الإسلامية وطيب إمارة الجبل وعبق القائمقاميتين وعطر المتصرفية. والدليل، أن كلما اندلعت بيننا أزمة سياسية أو دستورية أو عسكرية نفكر فورا بتغيير دولة لبنان. هذا "المنحى الأقصى" يكشف مدى ركاكة الوحدة الوطنية من جهة، ومدى استخفاف المكونات اللبنانية بدولتهم من جهة أخرى إذ يعتبرونها تتهاوى من نسمة هواء. فلأي شعب، إذن، تفتح أقلام الاقتراع في 15 أيار المقبل؟ ولأي دولة؟
لا تتصرف فئات لبنانية كمكونات متحدة في وطن وكيان ودولة حول مبادئ الديمقراطية والحرية والشراكة والحضارة، بل ككتل بشرية جـمعتها الصدفة أو العنوة في هذه الأرض، فأخذت تتشكل وتتفكك على مدار الأيام، وتجتمع وتتفرق على هوى المصالح الفئوية، وتقتل وتتقاتل على وقع لعبة الأمم. يصعب على لبنان البقاء دولة موحدة فيما كل مكون أسير أصوله الجغرافية والدينية ويربط ولاءه للبنان بانتماء لبنان وانحيازه إلى تلك الأصول الغابرة ودولها، وجميعها تبقى دون عظمة لبنان. 
لسنا الشعب الوحيد المتعدد الجذور. فشعب الولايات المتحدة الأميركية يتألف من جماعات أتت من أفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا ومن أعراق وأديان مختلفة. لكنها قطعت حبل الســـرة مع بلدانها الأصلية واندمجت شعبا أميركيا متحدا، وأقسمت اليمين الصادق على نهائية أميركا والتزمت دستورها وسياستها. لم يربط الأميركيون من أصل أوروبي، على سبيل المثال، ولاءهم لأميركا بانحياز أميركا للدول الأوروبية، بل حافظت هذه الجماعات على ولائها المطلق ودافعت عن سياسة واشنطن خصوصا حين كانت مخالفة لسياسة دولـها الأم.
الدول المركبة من أعراق وطوائف وثقافات مختلفة اعتمدت دساتير فدرالية ضمنت تعدديــتها في اتحادها، فوفرت لها النمو والازدهار والمساواة والخصوصيات. أما لبنان المكون من جماعات متمايزة ومتضادة، فاعتمد دستورا مركزيا فتعثر وتحارب وترنح. وإذا كان هناك شبه إجماع على أن النظام المركزي سقط، فاللبنانيون لم يتفقوا بعد على صيغة الدستور البديل: أهي اللامركزية الموسعة أم الفدرالية. الحق يقال إن بناء لبنان فدرالي كان شبه مستحيل سنة 1920 لأن تأسيسه لم يحظ على إجماع مكوناته، ولكانت الفدرالية آنذاك ستؤدي، تاليا، إلى حالات انفصالية وانضمام البعض إلى إحدى الولايات السورية.
رغم كل الاحتياطات التي اتخذت لإعطاء أفضل الفرص لانطلاق لبنان الكبير، لم نلمس فيض الوحدة اللبنانية في المئة سنة المنصرمة. الحالات الوحدوية كانت بمثابة هدنة في الصراع القومي والطائفي. معا وضعنا دساتير وحققنا الاستقلال وانتخبنا رؤساء وألفنا حكومات فازدهرت البلاد ونـمت، لكن كل ذلك كان يهوي أمام أول امتحان يستدعي وحدة ولاء للبنان فقط. كان التقدم الاقتصادي منفصلا عن المراوحة القومية، وحين التقيا أخيرا ارتطما وسقط الاثنان. 
كل هذه المخاوف تسترجع عشية الانتخابات النيابية، خصوصا أن الشرخ اتسع بين فكرة لبنان ومشاريع مكوناته، وبين النظام الديمقراطي والأداء غير الديمقراطي. لذا، وجب حسن الاقتراع لئلا تتحول الديمقراطية سلما يتسلق عليه أعداؤها للوصول إلى السلطة وممارسة الحكم ضد مبادئ الديمقراطية والشراكة والمساواة والحرية. لقد ساعد بعضنا دول الجوار والمحيط للانتقام من قيام الكيان اللبناني، فمتى نساعد معا لبنان في الانتقام لوجوده فينتصر الكيان وتستعاد الشراكة على أسس جديدة؟