الطفل ريان وثنائية الشر والخير
منذ سنوات تم اكتشاف نص مصري قديم على جدران عدة مقابر ملكية يسمى "كتاب البقرة السماوية" وقد وجد ايضا مكتوبا على ورق بردي من فترة الرعامسة ومحفوظ حاليا في متحف تورينو. هذا النص يصف أسباب الشر في العالم وكيف جاء الموت والمعاناة إلى الوجود.
وجدت مشكلة الشر في العالم منذ القدم وحيرت عقول البشر منذ وجدوا والتي اطلق عليها في العصور الحديثة الثيودوسيا أو العدالة الإلهية وهي فرع مهم من فروع فلسفة الإلهيات (الثيولوجيا) وهي فلسفة عميقة نوقشت على جميع المستويات في العالم وكانت لها جذور في الحضارات القديمة مما يدل على انها شغلت وجدان الانسان القديم كما الإنسان المعاصر تماما وشكلت محورا هاما في تاريخ الفكري الإنساني.
ومنذ أيام اثارت حادثة الطفل المغربي ريان مشاعر الملايين حول العالم على مدى عدة أيام متتالية تابعوا فيها المأساة لحظة بلحظة على أمل وترقب وكثفوا الدعاء على اختلاف مرجعياتهم الدينية لنجاة الطفل المسكين.
ثم كانت الصدمة بوفاة الطفل بعد معاناة عظيمة استدعت ردود أفعال متباينة تدور حول محاولات التوفيق بين معاناة طفل بهذه الطريقة البشعة وبين نظريات العدل الإلهي.
لماذا يسمح الله بوجود الشر في العالم؟
حاولت الديانات والفلسفات حل تلك المعضلة والإجابة عن هذا التساؤل الضخم الذي أرق الإنسان الأول وظل يؤرقه حتى الآن.
فعلى سبيل المثال نوقشت تلك المشكلة في الديانات الثنوية المانوية والزرادشتية والتي حاولت حل الإشكالية بفكرة ثنائية إله الخير وإله الشر، فنسبوا الشر إلى كيان آخر شرير تنزيها لإله الخير عن فعل الشر فهو مطلق الخيرية لكنه عاجز عن منع إله الشر ولكن نهاية النزاع بينهما سيكون بانتصار الخير.
حاولت الفلسفات الهندوسية حل الإشكالية ايضا بفكرة مفادها أن العدالة المطلقة لن تتحقق إلا بعد أن تنقى الارواح بإعادة تناسخها مرات ومرات تطهيرا لها حتى تتحد في النهاية بالمطلق فالراحة، والسرور، والفرح، والدعة التي نجدها هي مرتّبة على أعمال البر التي سلفت منا في الأدوار الماضية، والغم والحزن والضنك والكلفة التي نجدها هي مرتّبة على أعمال الفجور التي سبقت وهكذا فإن مصدر الشر أيضا هو خطايا الإنسان.
وعلى كل حال فإن أبيقور الفيلسوف الإغريقي هو أشهر من ناقش تلك المسألة حتى أنها سميت باسمه (معضلة أبيقور) فقد تساءل بوضوح هل الله يريد أن يمنع الشر ولكنه عاجز؟ أم أنه قادر وغير راغب في ذلك؟
يرجح الفيلسوف الألماني ليبيتز في كتابيه "أبحاث في العدالة الإلهية" و"محاولات في الثيوديسيا" – وهو أول من صاغ مصطلح الثيوديسيا - خلص إلى أن العالم الذي نعيش فيه هو أفضل العوالم الممكنة ولا يمكن أن يكون العالم كاملا وإلا لتساوى مع الإله وأن وجود الخير مرتبط بوجود الشر في العالم إذ لولا وجوده لما عرفنا الخير، فلولا خيانة يهوذا لما صلب المسيح وأن الله لا يريد الشر ولكنه يعطي الإنسان حرية الإرادة. وأما عن الشر الفيزيائي كالزلازل والبراكين فعلى حد قوله فأن أجمل الألحان لا يمكن أن تخلو من بعض الأنغام المتنافرة وهي نظرية تتشابه بشكل ما مع نظرية المعتزلة وهي فرقة اسلامية شهيرة قالت بأن أن الله لا يستطيع فعل الشر لأن ذلك ما تأباه طيبته وحكمته، فإن الخير الذي يفعله لا بد وأن يكون أصلح الممكن، مما استتبع بالضرورة قولهم بوجوب الصلاح على الله. ولاقى ذلك انتقادَ الاشاعرة من أهل السنة، لكون الله لا يجب عليه شيء في حكمته وشرعه وأن الحسن هو ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع ولا دخل للعقل في التحسين والتقبيح واستشهدوا بقصة موسى والخضر الشهيرة في القرآن حيث كان هناك حكمة ما لما قد يراه العقل شرا محضا.
كان أيضا للفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانت مناقشات مطولة حول الأمر في كتابه "الدين في حدود مجرد العقل" قسم فيه الشر إلى ثلاثة أنواع: الشر الأخلاقي مثل الحاق الضرر بالغير؛ الشر الفيزيائي مثل الكوارث الطبيعية؛ وعدم تناسب الجريمة مع العقاب أو القصاص.
جادل كانت حول كل نوع من هذه الأنواع وخلص إلى أن المعضلة تتجاوز حيزنا المعرفي.
أما هيغل فوفقا ً لرؤيته في الديالكتيك فقد قال أن مسألة وجود الشر تتفق مع طبيعة العالم التي تسعى للوصول إلى درجة الكمال لذلك فإن وجود الشر طبيعي في العالم.
وهكذا فإن الجدل حول وجود الشر لم ينته منذ بدأ وكان لكل حضارة أو ثقافة فلسفتها الخاصة لتبرير وجود الشر ولكن كما يبدو أن معضلة الشر لم تجد لها حلا نهائيا ناجعا.
رواية "الطاعون" للأديب الكبير ألبير كامو تحكي عن ظهور وباء الطاعون في بلدة ما. وفي سياق القصة هناك رجل الدين الأب بانيلو الذي ارتأى أن ظهور الطاعون مرجعه خطايا البشر وأن الطاعون بمثابة عقاب لهم على آثامهم، والآخر هو الطبيب ريو الذي تجاهل سؤال مغزى وجود الطاعون وانغمس في محاولات علاجه وانقاذ الناس من الشر. وهكذا نجد أن تجاوز سؤال المغزى وصولا لمحاولة منع الشر أو علاجه هو الحل الأنجح فإننا فقط بمواجهة الشر نأمل في منعه مستقبلا ولا نلتفت لسؤال المغزى. وكما قال الشاعر محمود درويش في قصيدته المعنونة في "حضرة الغياب":
الموت لا يوجع الموتى
الموت يوجع الأحياء