العالم في انتظار محرقة جديدة

الفلسطينيون يعرفون أكثر من غيرهم ما الذي يمكن أن تفعله حكومة نتنياهو من أجل أن تستعيد الجزء الذي فقدته من ثقة الإسرائيليين.

أما أن تعلن الميليشيات الإيرانية في العراق ولبنان وقوفها إلى جانب حركة حماس في حربها ضد دولة الاحتلال فذلك موقف لا يعول عليه لما يتخلله من بالونات هوائية يعرف مَن يطلقها أنها سرعان ما تنفجر، وأما وقد علق الإتحاد الأوروبي مساعداته الإنسانية إلى شعب غزة فإن ذلك الموقف انما يشير إلى تدني القيم الإنسانية والأخلاقية لصالح حسابات سياسية ضيقة الأفق، تقف في مقدمتها محاولة استرضاء الولايات المتحدة التي دفعت بواحد من أساطيلها البحرية إلى منطقة شرق المتوسط تحسبا لحاجة إسرائيل إلى المدد في عدوانها على شعب غزة انتقاما لما فعلته حركة حماس للتعبير عن حالة الغضب في مواجهة استمرار إسرائيل في سياستها الاستيطانية التي تضم الأرض مثلما تنهي أسباب الحياة في الغزة.

تدرك الميليشيات الإيرانية في العراق أن لا قيمة فعلية لحرب الهتافات التي تخوضها في ظل عجز الحكومة العراقية عن اتخاذ موقف سياسي مؤثر هي ليست بمستواه. لعبة يمكن النظر إليها من جهة ارتباطها بالموقف الإيراني الذي يعبر عن حقيقة المزاج الذي انقلب على الشعارات القديمة في محاولة من النظام لتقديم صورة عن إيران أخرى، يظن مرشد الثورة وأتباعه أنها ستكون مدخلا لإقٌناع العالم بأن إيران قد تغيرت. ربما لم تبلغ إيران أتباعها في العراق بتبدل موقفها وهي لا تحتاج إلى ذلك بالضرورة.

غير أن ما اتخذته دول الإتحاد الأوروبي من موقف لا يمكن تفسيره سوى أنه خروج على مبادئ اللعبة الدولية التي تم من خلالها الإبقاء على شعب غزة تحت السيطرة بغض النظر عمَن يحكمه، ولكن ماذا عن القيم الأخلاقية التي كانت أوروبا دائما عنوانا لها؟ ليست أوروبا مضطرة إلى خيانة قيمها الأخلاقية التي كانت عنوانا لمبادئ حقوق الإنسان التي صارت اليوم بمثابة درس ملزم للجميع. ولكن حين تكون إسرائيل في الحكاية فإن الراوي سيكون آخر مَن يعلم. تستسلم أوروبا لما يُطلب منها أميركيا. وهو ما يعد خيانة لأوروبا التي فكر فيها بناة اتحادها. فلا يمت ايمانويل ماكرون بصلة إلى شارل ديغول على سبيل المثال. ما كانت تخشاه الولايات المتحدة من قيام قطب دولي ثالث سعى زعماء أوروبا الجدد إلى محوه. ولمزيد من كسب الاطمئنان الأميركي فإن أوروبا سعت إلى التضحية بقيمها من أجل التعبير عن تضامنها مع إسرائيل.  

إن لم تنجح محاولات ثني إسرائيل عن المضي في حربها وهي محاولات لم تبلغ النضج حتى الآن فإن كارثة إنسانية ستقع، يحتاج نتنياهو إليها. وهو ما يضعنا أمام سؤال محرج هو: "ألم تفكر حركة حماس حين بدأت عملياتها بنجاح في تلك الكارثة؟"

من شأن صورة اسماعيل هنية وعدد من "مقاومي" الخط الأول وهم يتابعون مجريات الحرب من الدوحة، من خلال قناة الجزيرة أن تهز القناعات الجاهزة بالنسبة للكثيرين ممَن يشعرون بالقلق على مصير شعب غزة في مواجهة آلة البطش الإسرائيلية. هل علينا أن نصدق أن أولئك المقاومين المترفين قد راهنوا على حدوث تبدل في الموقف الدولي، من شأنه أن يمنع وقوع تلك الكارثة الإنسانية التي قد تفوق الكوارث السابقة في بشاعتها وقوة ما ستتركه من آثار مدمرة؟

لا أجد أن هناك ما يدعم ذلك الرهان على المستوى الواقعي. صحيح أن المفاجأة الفلسطينية كانت صادمة من جهة إلحاق الأذى بدولة الاحتلال وهو أمر غير مسبوق، ولكن الفلسطينيين يعرفون أكثر من غيرهم ما الذي يمكن أن تفعله حكومة نتنياهو من أجل أن تستعيد الجزء الذي فقدته من ثقة الإسرائيليين الذين كانوا في طريقهم إلى الانصراف عن نتنياهو وحكومته اليمينية. ولكن قد تقع حسابات قيادات حماس في مكان آخر، هو ذلك المكان الذين ينظرون من خلاله إلى مستقبل علاقتهم بالسلطة الفلسطينية في ظل الخلافات التي تتعلق بمرحلة ما بعد محمود عباس وفيما إذا استمرت حركة فتح في احتكار القرار السياسي الفلسطيني من غير منازع.

على أساس تلك المعادلة يتعادل الطرفان، حماس وإسرائيل، في حاجتهما إلى حرب جديدة بل وإلى كارثة جديدة، يكون شعب غزة مادتها البشرية. ألا يدرك الأوروبيون من دون الأميركان أن هناك شعبا أعزل قد أصبح موضوعا للمتاجرة والمزايدة بين عدوين، يستثمران في قتله وتدميره وتشريده ليربحا مستقبلا سياسيا؟ أما أن تتحول أوروبا بوقا للدعاية الأميركية العدوانية الساذجة فإن ذلك انما يشير إلى استعدادها إلى أن تشترك في عمليات إبادة جماعية جديدة.