العقل السليم في الحرف السليم

الأدب تخطى مستويات ما بعد الحداثة سواء على مستوى الرواية أو الشعر أو القصة القصيرة أو السينما والمسرح وأصبحت اللغة أكثر تحررا وأكثر بذاءة.
اللغة أعظم ما أنتجه البشر على مر التاريخ
كلما كانت اللغة أجمل والكلمات أبهى وأفصح كان التفكير أكبر

أدب الحداثة الكلاسيكي أرسى دعائمه الفيلسوفان كانط وديكارت في عصر النهضة الأوروبية، وهو أدب منطقي عقلاني ذو لغة محافظة مع أنه سمي بأدب الحداثة كتطور عن الأدب القديم المتوارث منذ آلاف السنين المعتمد على الدين والشعبوية في مجمل طروحاته، ولكن ظهر في العصر الصناعي أدب ما بعد الحداثة والذي كسر رتابة العقلانية الديكارتية أيضا حيث اعتمد هذا الأدب على نظام الصدمة وحرية استخدام الكلمات والإبتعاد عن رتابة العقلانية المعهودة وفي بداياته لم يتقبله الحرس الكلاسيكي القديم ثم ما لبث أن فرض نفسه مع تطور الأحداث والمجتمعات.
في نهاية الستينيات كتب ليزلي فيدلر مقالا بعنوان "حرر لغتك وقصر المسافات" لكن رفضت جميع الصحف الكلاسيكية نشر مقاله فنشرها في مجلة "بلاي بوي" الجنسية متخطيا كآبة الصحف الأدبية متماشيا مع روح الشباب وأفكار الجيل الجديد ثم ظهرت كتب في الثمانينيات في أميركا أرست لدعائم أدب ما بعد الحداثة ككتاب حضارة الحس وكتاب ما بعد حداثة التأمل.
حقيقة فإن التجارب الفردية كانت كثيرة عبر التاريخ مثل كتابات الشاعر الفرنسي آرثر رامبو المتمرد على كل الكلاسيكيات والذي سمي بالشاعر المجنون وفي التراث العربي هناك الحطيئة وهناك المتنبي الذي مازج بين البلاغة التراثية وبين لغة متحررة ومنطق منفتح لأبعد الحدود تجعل الشتم والسب أهم ركيزة فيهما.
في العصر الحديث تخطى الأدب مستويات ما بعد الحداثة سواء على مستوى الرواية أو الشعر أو القصة القصيرة أو السينما والمسرح وأصبحت اللغة أكثر تحررا وأكثر بذاءة حيث تسمى الأشياء بمسمياتها بدل التورية أو ذكر المرادف المحتشم ليكون الأدب أقرب إلى واقع الناس فهو في الآخر نابع من حياتهم اليومية لكن المجتمعات العربية والإسلامية ما زالت تشكو من سيف الرقابة على الإبداع.
اليوم نرى مشكلة عويصة في مجال الكتابة فهناك لغة إنشائية مملة مع عدم قدرة الناس على تحديث كلماتهم والغرق في قوالب جاهزة تفقد بريقها مع التكرار وذلك يؤثر على الأدمغة حيث يفقد العقل قدرته على الإبداع ويجنح للكسل والتراخي وتسهل عملية غسيل مثل هذه الأدمغة ولذلك تلجأ كل الأيديولوجيات إلى تكرار جمل وقوالب جاهزة لتصغير حجم أدمغة مريديها، ويكفي فقط للتخلص من هذه المشكلة الإعتماد على إحساسك الحقيقي بالأشياء وكتابة ذلك بدل الإعتماد على القوالب الجاهزة بمعنى أوضح إعتمد على فطرتك وسجيتك حتى تكون طبيعيا.
في روايته 1984 يذكر جورج أوريل قصة دكتاتور يحاول التقليل من الكلمات المستخدمة لدى الشعب بهدف تقليل التفكير، وذلك لأنه كلما ضاقت اللغة ضاق التفكير، وكلما ضاق التفكير استسلم الشعب أكثر، ولم يعد قادرا على الخروج من قوقعة الحاكم والثورة عليه.
هناك دراسات كثيرة حول تأثير اللغة على التفكير وهي في مجملها تتفق أنه كلما قلت المصطلحات ضعف التفكير السليم لأن كثرة المرادفات تغني العقل، ولذلك نجد أن من يتقن عدة لغات تكون موازنته للأمور أدق وأشمل ممن يتقن لغة واحدة.

The language
من أعمال بيكاسو

الإيديولوجيات والأنظمة التسلطية والأحزاب الشمولية تتقن هذه اللعبة فهم يلعبون دائما على برمجة دماغ مريديهم أو الشعب بشكل عام على بضعة مصطلحات مكررة حتى يفرغ دماغ المتلقي وتضيق مساحته ويدور في فلك تلك الإيديولوجيا ونستطيع هنا استخدام مصطلح سجن العقل فهم يسجنون الأدمغة بدل أن يسجنوا الأجساد.
مبادئ بافلوف في الترويض وعمليات غسل الأدمغة كلها تعتمد على لعبة اللغة والمصطلحات وهناك عدة مبادئ رئيسية لهذه العملية منها تقليل المصطلحات، ومنها اختراع مصطلحات جديدة، ومنها تفخيم بعض المصطلحات، وكل هذه المبادئ تعتمد في الآخر على عملية التكرار حتى تصبح جزءا من الدماغ وأكثر من استخدم هذه التقنيات هي الأحزاب والدول الإشتراكية.
الأحزاب الدينية أيضا تحاول تقليل المصطلحات، لكنها تصطدم بالبلاغة الكبيرة للكتب المقدسة ولذلك تلجأ إلى التكرار بدل الإبداع، وهذا ما يجعل خطب الجمعة لدى خطباء المساجد كلها مكررة ومتشابهة ومليئة بقوالب جاهزة ولا يستطيع المتلقي أن يخرج منها بجملة يستفيد منها في حياته العملية بل يمتع دماغه بما يلقى عليه من المكرر الذي تعود عليه ثم يقفل راجعا لحياته.
حتى نغوص أكثر ونفهم مدى تأثير اللغة على الإنسان، فإننا نلاحظ أن الإنسان الأقل قدرة على التعبير هو إنسان عصبي دائما بعكس الفصيح والبليغ فإنه يكون هادئا أكثر والقضية أشبه بالطفل الذي لا يتكلم ولا يعرف التعبير عما بداخله فيلجأ إلى الصراخ والبكاء، ومن الملاحظ أن الكثيرين من المؤدلجين عندما يخرجون على الإعلام فإنهم يفقدون أعصابهم بسهولة لأن الإيديولوجيا محت من ذاكرتهم المصطلحات، ولم يعودوا قادرين على التعبير فيلجؤون إلى الصراخ ويفقدون أعصابهم ويتم جرهم للمهاترات بكل سهولة ويسر.
اللغة أعظم ما أنتجه البشر على مر التاريخ وجميعهم اشتركوا في صناعته وهي تحوي الفلكلور والأغاني والشعر والأدب والأمثال، وكلما كانت اللغة أجمل والكلمات أبهى وأفصح كان التفكير أكبر، وكانت مساحة الدماغ أوسع، ولذلك على النخب المثقفة الإهتمام باللغة وآدابها حتى تأخذ بيد الشعوب نحو التفكير السليم كي تبتعد عمن يريد أن يحشرهم في عنق الزجاجة، فيخلق منهم شعوبا ممسوخة لا تعبير لديها ولا لغة ولا فكر سوى ما صنعته الأنظمة والايديوجيات من أضيق المصطلحات.