الفيلسوف والغرابة

المصدر الحقيقي لنشؤ الافكار هو الواقع وما يتمُ إدراكهُ من خلال المواكبة للحراكات المحمولة بنواةِ ماهو جديد ومختلفُ عن السائد.

المحك الأمثل لمصداقية الأفكار ليس المُطابقة مع الواقع أو تضخم عدد الموالين لها فحسب بل إلى أي مدىً تُمثل حياة صاحبها لأنَّ الفكر لاينفصلُ أبداً عن الخط السيري ومن هنا نفهم ما قاله نيتشه بأنَّ في النُظم الفلسفية التي تهاوتْ ثمة شيءُ لايُمكنُ دحضه وهذا الشيء هو العنصر الشخصي الذي يثيرُ اهتمام المُتابعين باستمرار.

ومن المعلوم بأنَّ ما يجذبُ الانتباه إلى مؤلفات صاحب "جينالوجيا الأخلاق" هو التشابكُ بين حياته الشخصية وتحولاته الفكرية في مراحل مُختلفة، عليه فإنَّ تفاصيل الحياة اليومية لأصحاب المشاريع الفلسفية لاتقلُ أهمية وقيمة عن اختراقهم للمحدود في التفكير واكتشافهم لمناطقَ غير مطروقة في الاشتغال المعرفي  فالمصدر الحقيقي لنشؤ الافكار هو الواقع ومايتمُ إدراكهُ من خلال المواكبة للحراكات المحمولة بنواةِ ماهو جديد ومختلفُ عن السائد.

فالأهمُ على هذا الصعيد هو ما يلاحظهُ المتأمل في مواقف الفلاسفة من الغرابة المسكونة في طبيعة حياتهم، فكان الفيلسوف الأولُ طاليس  الذي أثار تعثرهُ وهو يمشي ناظراً إلى السماء سخرية الفلاحة التي أطلقت ضحكة على مارأتهُ ولسان حالها يقولُ بالتهكم "أنى لك يا طاليس أن تعلم أسرار السماء وأنت لاتستطيعُ أن ترى موطيء قدمك".

الجدلية

لاتنتهي قصة طاليس  عند هذا الحد.بل هو قد تعرض للاستهزاء بسبب ملابسه القذرة ومزاجه المشتت فقد قارنهُ سكانُ ميلوس  بالثعلب حسب رواية أنطوني ماكغاوان في كتابه "كيف تلقن كلبك الفلسفة؟" لأنَّه قد دأب على انتقادِ أؤلئك الذين لاشغلَ لهم سوى تراكم الأموال وإدارة الأملاك فسبب هذا الموقف المناويء للثروة بنظر العامة هو أن الفيلسوف يفشلُ فيما يدرُ عليه بالثروة لذلك لاخيار له غير أن يُحمل على من لايستهويه إلا المال والمكاسب المادية.

لكن طاليس قد استفاد من معرفته بالرصد الجوي ليستنبطَ مايكونُ عليه المناخُ المواتي لمحصول الزيتون فبادرَ بشراء جميع معاصر الزيتون وبهذا تمكن من وضع الأجرِ الذي يريده وكسب مبالغ طائلة .إذن الأهمُ في طاليس ليس غرامه بالسماء وحركة الأفلاك ولا تنبوئه بخسوف القمر أو قوله بأنَّ أصل الأشياء ماء بل مرونته بالتخلي عن عباءة الفيلسوف مؤقتاً عندما تحداه أهالي ميلوس مايعني أنَّ التجاهل للريبة الناشبة لدى العامة بشأن جدوى الاشتغال المعرفي أو العلمي والاعتصام بالبرج العاجي لايُعدُ تصرفاً مُقنعاً بل  يستدعي الموقف هذا تحويلَ الخلاصات الفكرية إلى أدواتِ فاعلة لتثوير الواقع، لأنَّ الأفكار المُستقاة من التجربة الحياتية لابُدَّ أن يكون لها مفاعيلُ واضحة على المستوى الواقعي وإلا فإنَّ التراوح في التجريد حجاب للبصيرة.

موت سوريالي

 الكلامُ عن الغرابة يحيلُ إلى شخصية فلسفية مثيرة للجدل بتقشفها من مباهج الحياة وانشقاقها عن كل ما يشدُ الفردَ نحو التعلق بالمظاهر والأعراف، فاختارَ ديوجين البرميل مكاناً للإيواء إليه.

والأغراب من ذلك أنَّه كان يجوبُ شوارعَ أثينا في وضح النهار حاملاً قنديله وعندما كان يُسألُ عن الضالة التي يبحثُ عنها يردُ قائلاً : "أبحثُ عن الإنسان".

وطبعت الغرابةُ السيناريو الأخير لسيرة ديوجين الكلبي فهو قد مات حسب بعض الروايات بسبب التسمم الغذائي كما تقع على مروية أخرى مفادها أنَّه قد حبس أنفاسه إلى أن فارق الحياة غير أنَّ الرواية الأنسب أكثر من سواها لشخصية ديوجين هي ماتذهب إلى أن الفيلسوف قد مات بعضة كلب كان يطعمه.

وما طمحَ إليه  إيمبيدوقليس بأن يكونَ إلهاً يضعَه في مصافِ فلاسفة الغرابة.يروى بأنَّ هذا الفيلسوف قد سبغَ على نفسه صفاتٍ إلهية وتوهمَ بأن الموت لايفترسَ به لكن تقدمَ به العمرُ وأصبح عجوزاً وأدرك بأنَّه قاب قوسين أو أدنى من الموت لذلك يهربُ إلى جبل إيتنا خلسةً حيثُ البركان يصدرُ حمماً.

وألقى بنفسه في فوهة النار مقتنعاً بأنَّ تواريه التام يؤكدُ ألوهيته، ولكن لسوء حظه قد تم العثور على إحدى فردتى حذائه وهذا ما أصابَ حلمه بأن يكسبَ مجداً إلوهياً بعد اختفائه في المقتل.

يضيف هيراقلطيس بمواقفه الاستعلائية حلقة أخرى إلى المشهد الغرائبي في عالم الفلاسفة فهو رأى بأن أصل الوجود نارُ مؤمناً بأنَّ الإنسان لاينزل في النهر مرتين مايعني أنَّ العالم في حركة دائمة وهو يقول بإحدى شذراته "لاتلوموا إلا قصر نظركم إن ظننتم أنكم تبصرون أرضاً ثابتة في بحر الكون"، غير أنَّ هذا الفيلسوف كان موته مثيراً وسوريالياً فقد أراد معالجة معاناته من الاستسقاء إذ لطخ نفسه بروث البقر آملاً بأنه يقضي على رطوبة زائدة حسب مروية أنطوني ماكغاوان فإذا بزمرة من الكلاب يلتبس عليها الأمر وتلتهم جسده.

فحياةُ سقراط أيضاً لاتخلو من الغرابة، كان يمكنُ لفيلسوف أثينا أن يفلت بنفسه من الموت حسبما يذكر ذلك والكلام على عهدة ماكغاوان لأنَّ القانون اليوناني ينصُ على أنَّ المدان بعدما يصدر الحكم عليه يمكنُ للإدعاء والدفاع اقتراح العقوبة.

إذن لو كان سقراط قد اختار الغرامة أو النفي لتفادى الإعدام غير أنَّه اقترح أن يحظى بوجبات مجانية على نفقة الناس مكافأة له على مشروعه التثقيفي.

يذكر أنْ سقراط كان يتفلسفُ حتى سوء نصيبه في الزواج عندما سُئِلَ عن سبب اختياره "زيتيب" شريكة لحياته مع أنها عرفت بلسانها السليط فأجاب فيلسوف أثينا بأن على مروضي الخيول ترويض أكثر الحيوانات جموحاً.

صك الحرية

تعبرُ سيرة الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس عن التضافر بين المنهاج الفلسفي والتحديات الحياتية فهو قد ذاق مرارة العبودية إذ تم سوقه إلى روما وهناك بيع غير أن صاحب "المختصر" يكتسب صك الحرية بنبوغه الفلسفي ويتمكنُ من مواجهة ظروف قاهرة بمناعته النفسية، فكان سيده إيافروديتوس  نكل به وعذبه بطريقة غريبة حيث وضع رجل الفيلسوف في آلة التدوير مترقباً ردَّ فعله، وما من أبكتوتيوس إلا أن قال ستكسرها.

 وفي ذلك صورة واضحة لتحمل الشدائد والتجلد وقبله كان الطاغية  ديونيسيوس غضبَ على أفلاطون غضباً جنونياً بسبب آرائه الفلسفية والأخلاقية حتى أنه عرضه في سوق النخاسة للبيع ولولا انيساريس القوريني الذي افتداه لكان مصير مؤسس الأكاديمية ينتهي إلى العبودية.

توقع الأطباء بأن الطفل الذي سيؤرخ لاحقاً لمرحلة مفصلية في مسيرة الفلسفة بفتوحاته المعرفية سيموتُ مبكراً لأنَّه ورث الشحوب وضيق التنفس من أمه الأمر الذي حدا برنييه ديكارت أن يمضى معظم أوقاته وهو في الفراش كان منهمكاً في قراءة الأدب الكلاسيكي محاوراً النبلاء الطاعنين في السن وعندما يسافر إلى باريس يستفيد هناك من درايته في الرياضيات ليكسب ربحاً وفيراً في لعبة القمار وبذلك لم يعد قيد التجريد في تعاطيه مع العلوم والفلسفة.

أما مواطنه سارتر فكان مغرماً بالرحلات والسفر، ولم يكن محتفظاً بأي شيء من مقتنياته خلال أسفاره حتى كتبه كان يتخلى عنها وما أراد الاحتفاظ بشيء سوى قلمه وغليونه لأنه كان متعلقاً بهما.

وكتب يقول "هما البعيدان في يدي" ربما يستغربُ المتابعُ بأنَّ شوبنهاور وصل سوء ظنه بالبشر إلى درجةٍ كان يحجز مكانين في المطعم حتى لايشاركهُ أحدُ في عزلته.

إذن فإن الفلاسفة لهم وجه آخر وهواجس واهتمامات خاصة، وما ينطوي عليه سجلهم الفكري يمثلُ جانباً من شخصيتهم التابعة للأهواء والأمزجة.

وأخيرا نعود إلى نيتشه الذي كان يؤكدُ بأن كل فيلسوف عظيم قد كتب نوعاً من المذكرات اللاإرادية غير الواعية.

ويجدر أن يقفل هذا المقال بنهاية غرائبية للفيلسوف خريسيبوس الذي فارق الحياة إثر اصابته بنوبة هسترية من الضحك ويبدو بأنَّ من الضحك مايُقتلُ كما الحب.

ونحن نتحدث عن الغرابة جديرُ بنا الإشارة إلى القس الفرنسي موسليه وهو قد خدم الأكليروس بالتفاني لكن عندما توفى قد تم اكتشاف مذكراته يعلنُ فيها الإلحاد ويعبر عن تمنياته بأنْ يشنقَ جميع المستكبيرين والإقطاعيين على هذه الأرض بأمعاء الكهنة والزبانية.