اللسانيون العرب يخسرون محيي الدين محسب
غيب الموت أمس الشاعر وعالم اللغويات المصري البارز الدكتور محيي الدين محسّب، أستاذ العلوم اللغوية والأسلوب منذ عام 1998، وقد حصل على ليسانس الآداب بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى عام 1976، وكان عميدًا لكلية دار العلوم بجامعة المنيا. ومن مؤلفاته: "اللغة والفكر والعالم"، "علم الدلالة عند العرب"، "انفتاح النسق اللساني: دراسة في التداخل الاختصاصي"، "الثقافة المنطقية في الفكر النحوي"، "الأسلوبية التعبيرية عند شارل بالي: أسسها ونقدها"، "أبعاد ابستمولوجية وجهاتٌ تطبيقية". وله في الإبداع الشعري: ديوان "عند قوس الانقسام"، وديوان "مراودة الماء".
وقد ربطتني صداقة سنوات طوال بالدكتور محيي الدين محسب منذ التقينا لأول مرة أثناء رئاسته بقسم "اللغة والدراسات السامية والشرقية" بكلية دار العلوم بجامعة المنيا التي أصبح عميدًا لها. وتوطدت معرفتي به خلال السنوات التي كنت ألتقيه فيها في رحاب "المجلس الأعلى للثقافة" أثناء زمالتي له في "لجنة الدراسات الأدبية واللغوية"منذ عام 2014.
ولعل هذا هو ما خلق هذا التناغم الذي حكم أداءنا داخل "لجنة الدراسات الأدبية واللغوية"، سواء في زمن رئاسة الدكتور أحمد درويش لهذه اللجنة أو في السنوات التي تولى رئاستها الدكتور السيد فضل، الذي نعاه أمس إلى الساحتين الثقافية والأكاديمية العربية قائلًا:

"دهر يشيع سبته أحده متتابع ما ينقضي أمده...
رحم الله صديقنا الدكتور محيي الدين محسب ورزقه الجنة
سنفتقد علمك ونبلك، طبت في جنات النعيم".
وقد كان الراحل مشاركًا في مشروعات ثقافية مهمة في مجاله، ومنها مجلة "اللسانيات العربية" التي لمست مدى فرحته يوم صدور عددها التاسع، وقد لاحظ رغبتي في سؤاله عن سر هذه الفرحة التي غمرته فقال لي: "مجلة "اللسانيات العربية" هي إحدى الثمار اليانعة التي طرحها "مركز الملك عبدالله الدولي لخدمة اللغة العربية" بالرياض. فمن بين عطاءات متعددة في مجال رعاية اللغة العربية والعمل على نشرها وتعزيز مكانتها الدولية، وتنمية أدوارها في بيئاتها العربية، والسعي نحو تكريس الاهتمامات المعرفية الرصينة بمجالاتها، ودراسة ظواهرها المختلفة، تأتي هذه المجلة إسهامًا متميزًا بوصفها عملًا رائدًا ومؤسِّسًا، في مجال دقيق ذي أهمية علمية، وله أبعاد ومقتضيات حضارية، وهو مجال اللسانيات العربية، أو ما يسمى بمصطلح أستاذنا الدكتور محمود فهمي حجازي "علم اللغة العربية".
وقد شرفت بأن أكون عضو هيئة تحرير هذه المجلة التي انطلقت نصف سنوية مع صدور عددها الأول في يناير/كانون الثاني 2015، ولقد جاء في تعريف المجلة بنفسها أنها "مجلة تختص بالدراسات والبحوث التي تعنى باللسانيات العربية والمدارس اللسانية المختلفة وعلاقتها باللغة العربية، وتنشر المشاركات التي تتناول اللسانيات النظرية منها والتطبيقية، مثل الأصوات والتراكيب وتحليل النص وتحليل الخطاب والتداولية، وكذلك علم اللغة النفسي وعلم اللغة الاجتماعي بفروعهما المختلفة وجوانبهما النظرية والتطبيقية.
كما تهتم المجلة بتعليم اللغات لأهلها وللناطقين بها من غير أهلها، واكتساب اللغة الأولى والثانية والتخطيط اللغوي واختبارات اللغة ودراسات الترجمة والمدونات اللغوية".
ولعل الأمر الجدير بالتنويه أن هذه المجلة توفر لها نخبةٌ ممتازة من القائمين عليها. فعلى صعيد الإشراف العام يأتي دور الدكتور عبدالله صالح الوشمي، الأمين العام لهذا المركز، والدكتور عبدالعزيز العصيلي، رئيس تحرير المجلة.
ثم تأتي الهيئة الاستشارية للمجلة لتضم نخبةً علميةً من أكثر من قطر عربي من ذوي الأقدار اللسانية الرفيعة: فمن السعودية الدكتور محمود إسماعيل صالح. ومن مصر الدكتور محمود فهمي حجازي، والدكتور سعد مصلوح. ومن تونس الدكتور صلاح الدين الشريف والدكتور إبراهيم مراد. ومن المغرب الدكتور عبدالقادر الفاسي الفهري، والدكتور محمد غاليم. ومن العراق الدكتور علي القاسمي. ومن الأردن الدكتور نهاد الموسى، ومن السودان الدكتور يوسف الخليفة أبو بكر. ومن لبنان الدكتور بسام بركة.
ومن الواضح عبر الأعداد التي صدرت من المجلة أن المجلة تستقطب الدراسات اللسانية الجادة المتعمقة في أحدث ما يمكن استثماره من موارد اللسانيات المعاصرة في دراسة العربية ومعالجة قضاياها وظواهرها.
وعندما أتأمل مشهد رحيل صديقي العالم الكبير الدكتور محيي الدين محسب لا يمكنني أن أنسى فضله في إحاطتي بقيمة اللغة العربية على المستوى العالمي، فقد قال لي ذات يوم ونحن نناقش أوضاع العربية كلغة ثانية في التعليم في فرنسا: "من وجوه التحديات المعاصرة التي تنخرط فيها اللغة العربية وجهُ تعزيزِ مكانتها الدوليةِ عَبْـرَ تعزيزِ وجودِها في فضاءات عالمية أكثر تأثيرًا في حركة التاريخ الإنساني المعاصر. ولكن هذا الوجه بالتأكيد يتطلب سبر واقع هذه اللغة في هذه السياقات الدولية، ويتطلب تقييمًا موضوعيًّا وعلميًّا لهذا الواقع، والتعريف بحال استخدامها فيه، ونوعية هذا الاستخدام، والفرص المتاحة للعربية، والتحدياتِ التي تواجهها فيه. والمأمول من وراء هذا التقييم هو أن تعكس خطط تعزيز نشر العربية غاية مهمة؛ وهي أن يتحول تعلمها إلى مطلبٍ يحقق مصالح فعلية لأصحاب هذا المجتمع أو ذاك.
ولأن الموضوع شاسع الأبعاد فإنني سأركز الإشارة إلى مسألة بالغة الخطورة في هذا السياق. وهي أن أشد مصادر المقاومة لنشر تعليم العربية في بيئة دولية كالبيئة الفرنسية أو غيرها، هو أن الوجه الذي يطل منه تعليم العربية هو نفسه الوجه الذي يطل منه التبشير بالدين الإسلامي. ولا شك أن مثل هذه الدعوات تفضي إلى خلق صدامٍ لا مسوغ له مع الانتماءات الوطنية. ومن يراجع خطاب دعاة تعليم العربية في فرنسا يجد أنهم في غالب الأحيان لا يقدمون ذلك المطلب اللغوي المتمثل في الدعوة إلى تعليم العربية في المؤسسة التعليمية باعتباره أمرًا ذا قيمة حضارية، وذا غاية تصب في تحقيق اندماج المواطنة العادلة وتعزيز الوحدة الوطنية مع الاحتفاء بالتنوع الثقافي. كثيرًا ما يتجه هذا الخطاب إلى القول بأن تعليم العربية يكرّس الهوية الدينية للغة العربية. وفي أحيان أخرى يكرس الشعور بالامتياز أو الخصوصية عن الآخر؛ بما قد يولّده ذلك من أشكالٍ مختلفة من الصراع والمواجهة. إن تقديم تعليم العربية من منظور التأسيسات العلمية القارة في اللسانيات التعليمية، ومن خلال ربط محتواها التعليمي بالقيم الإنسانية المشتركة، وبقيم الدولة المدنية الحديثة، هو المدخل الصحيح لتعزيز المكانة التعليمية للعربية في أي بيئة من بيئات العالم المعاصر.
ولعل اللحظة التي لا يمكن أن تفارق ذهني في علاقتي بالدكتور محيي الدين محسب هي تلك التي هاتفني فيها ذات ليلة من خارج مصر وصوته يتهلل فرحًا وهو يقول: "أستاذك وأستاذي العالم الكبير الدكتور محمود فهمي حجازي حصل على جائزة الملك فيصل العالمية.. ولكن مناصفة. وليتك تكون أول من يُبلغه هذا النبأ".
وقد فعلت.
ومرت الشهور.. وتثاقلت الخطى.. وعلمت بمرض خطير ألم بصديقي الدكتور محسب، فاتصلت به لكنه كعادته كان رده بشوشًا ولم يشأ أن يُدخلني في دائرة ألمه، وبإنسانيته المعهودة قال لي: "أنا سعيد جدًا لأن ابني حصل هذا الأسبوع على درجة الدكتوراه في جراحة المخ، كما أن سعادتي لا توصف بنيل أستاذي محمود فهمي حجازي جائزة الملك فيصل العالمية التي كان يستحقها منفردًا، ولكن المعركة كانت شرسة فلم يكن أمامنا إلا المناصفة".
رحم الله مُحسب الذي كان يمتلك القدرة على أن يفرح لفرح الآخرين، دون أن يطلب مرة واحدة من أحد أن يُرشحه لمنصب أو جائزة أو تقدير.