'اللعوب': رقصة الوهم في مرآة تشيخوف
تُعدّ رواية "اللعوب” واحدة من الأعمال القصصية البارزة للأديب الروسي العظيم أنطون تشيخوف، والتي نُشرت عام 1892 وتُصنف كنوفيلا قصيرة، تظهر براعة تشيخوف في التقاط التفاصيل الإنسانية الدقيقة وتحليل النفس البشرية بأسلوب يمزج بين السخرية اللاذعة والتعاطف العميق. إنها ليست مجرد قصة عن زوجة خائنة أو زوج مُهمل، بل هي تأمل عميق في الطبيعة البشرية، الرغبات المتناقضة، والثمن الباهظ للسطحية. من خلال أسلوب سردي مكثف وشخصيات مرسومة بدقة، ينجح تشيخوف في تقديم عمل أدبي يتجاوز زمانه ومكانه ليُخاطب القراء في كل العصور. إنها دعوة للتأمل في قيمنا واختياراتنا، وتذكير بأن السعادة غالبًا ما تكون في الأشياء البسيطة التي نُغفل عنها.
تدور أحداث "اللعوب" التي ترجمها أبو بكر يوسف وصدرت عن مؤسسة هنداوي حول أولجا إيفانوفنا، امرأة شابة مفعمة بالحيوية، تسعى إلى حياة مليئة بالإثارة والشهرة من خلال ارتباطها بالأوساط الفنية والثقافية. تتزوج أولجا من طبيب يُدعى أوسيب ستيبانتش ضيموف، رجل هادئ ومتفانٍ في عمله، لكنه بعيد عن الأضواء التي تطمح إليها. تنجذب أولجا إلى عالم الفنانين والمثقفين، وتُقيم علاقة عاطفية مع رسام يُدعى ريابوفسكي، مما يؤدي إلى سلسلة من الأحداث التي تكشف عن هشاشة طموحاتها وسطحية قيمها. تنتهي القصة بنهاية مأساوية تعكس التبعات المدمرة لاختيارات أولجا، حيث تدرك قيمة زوجها بعد فوات الأوان.
هكذا تُجسد أولجا النموذج الأنثوي الذي يُغويه بريق الشهرة والمظاهر. إن افتتانها بالفنانين وأسلوب حياتهم العابث يعكس نزعة إنسانية شائعة للتمسك بالقشور على حساب الجوهر. في المقابل، يُمثل ضيموف العمق والإخلاص، فهو طبيب يضحي براحته من أجل مرضاه، لكنه يُهمل من قِبل زوجته التي لا ترى قيمته إلا بعد خسارته. يُبرز تشيخوف هذا التناقض بمهارة، مُشيرًا إلى أن السعادة الحقيقية تكمن في تقدير البساطة والتفاني.
تُعدّ لحظة إدراك أولجا لخطأها من أقوى اللحظات في النص. عندما تفقد ضيموف بسبب إصابته بعدوى أثناء عمله، تُصاب أولجا بندم عميق، لكن هذا الندم لا يُغيّر مصيرها. يُظهر تشيخوف هنا سمة إنسانية أساسية: غالبًا ما يأتي الوعي بعد أن تُغلق الأبواب. هذا الموضوع يتردد في أعمال تشيخوف الأخرى، حيث يُسلط الضوء على عجز الإنسان عن إصلاح ما أفسده في الوقت المناسب.
تُعاني أولجا من انقسام داخلي بين رغبتها في الانتماء إلى المجتمع الفني "الراقي" وبين واجباتها كزوجة. يُصور تشيخوف هذا الصراع بطريقة تُبرز تأثير الضغوط الاجتماعية على القرارات الفردية. إن سعي أولجا لتحقيق ذاتها من خلال الارتباط بالمشاهير يُعكس رغبة في الهروب من الواقع، لكنه يؤدي إلى عزلتها النفسية في النهاية.
يتميز أسلوب تشيخوف في "اللعوب" ببساطته الظاهرية التي تخفي تعقيدًا نفسيًا عميقًا. يعتمد على السرد الموضوعي، حيث يترك للقارئ الحكم على الشخصيات دون إصدار أحكام مباشرة. هذا الأسلوب يُعزز من واقعية القصة، إذ يشعر القارئ أنه يُراقب أحداثًا حقيقية وليس مجرد خيال أدبي. وكعادته، يستخدم تشيخوف لغة موجزة لكنها غنية بالمعاني. لا يوجد في النص وصف زائد أو حوار غير ضروري. كل جملة تُساهم في بناء الشخصيات أو تعميق الموضوعات، مما يجعل القصة مكثفة ومؤثرة رغم قصرها.
ومن جانب آخر يستخدم تشيخوف السخرية اللطيفة لنقد سلوك أولجا. على سبيل المثال، يُصور حماسها المبالغ فيه تجاه الفن والفنانين بطريقة تُبرز سطحيتها، دون أن يُصرح بذلك. هذه السخرية تُضفي على النص طابعًا كوميديًا خفيفًا، لكنها تتحول تدريجيًا إلى مأساة مع تطور الأحداث.
يُشير عنوان "اللعوب" إلى رمزية أولجا ككائن خفيف يقفز من تجربة إلى أخرى دون استقرار. هذا العنوان يحمل إشارة إلى خرافة "النملة والجندب" لإيسوب، حيث يُمثل الجندب العبث واللامسؤولية، بينما تُمثل النملة العمل الجاد. ضيموف، في هذا السياق، يُشبه النملة التي تُضحي وتُخطط، بينما أولجا تُجسد الجندب الذي يعيش للمتعة اللحظية.
تُعتبر "اللعوب" من الأعمال التي عززت مكانة تشيخوف كرائد للقصة القصيرة الحديثة. من خلال هذا النص، ساهم تشيخوف في تطوير تقنية "تيار الوعي"، حيث يُركز على الحالة النفسية الداخلية للشخصيات أكثر من الأحداث الخارجية. هذه التقنية أثرت لاحقًا على كتاب مثل جيمس جويس وفيرجينيا وولف.
علاوة على ذلك، تُظهر "اللعوب" قدرة تشيخوف على نقد المجتمع الروسي في أواخر القرن التاسع عشر، حيث كانت الطبقات الاجتماعية تتصارع بين القيم التقليدية والحداثة. أولجا تُمثل هذا الصراع، إذ تسعى إلى الانتماء إلى النخبة الثقافية، لكنها تُعاني من عدم القدرة على التوفيق بين طموحاتها وواقعها.
مقتطف من الرواية
شهد زفاف أولجا إيفانوفنا كل أصدقائها ومعارفها الطيبين.
ـ انظروا إليه، أليس صحيحًا أن فيه شيئًا ما؟ قالت لأصدقائها وهي تومئ إلى زوجها، وكأنما تريد أن توضح لهم لماذا تزوجت هذا الرجل البسيط والعادي للغاية والذي ليس فيه أي شيء مميز.
وكان زوجها أوسيب ستيبانتش ضيموف طبيبًا يحمل لقب المستشار الاعتباري. وكان يعمل في مستشفيين؛ في أحدهما طبيبًا ممارسًا منتدبًا، وفي الآخر طبيب مشرحة. وكان يستقبل المرضى ويعمل في العنبر يوميًّا من التاسعة صباحًا حتى منتصف النهار، وبعد الظهر يتوجه بالعربة إلى المستشفى الآخر حيث يشرِّح من يُتوفى من المرضى. وكان دخله من الممارسة الخاصة ضئيلًا، لا يتعدى خمسمائة روبل في العام. وهذا كل ما هنالك. فما الذي يمكن أن نضيفه عنه؟ بينما كانت أولجا إيفانوفنا وأصدقاؤها ومعارفها الطيبون أناسًا غير عاديين أبدًا. كان كلٌّ منهم يتميز بشيء ما، ومعروفًا قليلًا، وله اسمه وشهرته، أو إذا لم يكن بعدُ مشهورًا فقد كان يبشر بآمال رائعة. كان هناك ممثل من مسرح الدراما، موهبة كبيرة، معترَف بها منذ زمن، ورجل رشيق، ذكي ومتواضع، وأستاذ ممتاز في الإلقاء، كان يعلِّم أولجا إيفانوفنا فن الإلقاء. ومغني أوبرا… رجل بدين طيب، كان يؤكد لأولجا إيفانوفنا متنهدًا أنها تقضي على نفسها، فلو لم تركن إلى الكسل، وحزمت أمرها لأصبحت مغنية رائعة. وكان هناك أيضًا عدد من المصورين وعلى رأسهم ريابوفسكي مصور المواضيع والحيوانات والمناظر… شاب أشقر، جميل جدًّا في حوالَي الخامسة والعشرين من عمره، حقق نجاحًا في المعارض وباع لوحته الأخيرة بخمسمائة روبل. كان يصحح لأولجا إيفانوفنا رسوماتها ويقول إنها ربما بلغت شيئًا ما. وكان هناك أيضًا عازف الفيولنشلو الذي كانت آلته تنتحب، والذي اعترف صراحة بأنه من بين جميع من يعرفهن من النساء لا توجد من تستطيع مصاحبته في العزف سوى أولجا إيفانوفنا. وكان هناك أديب شاب، ولكنه معروف، يكتب الروايات والمسرحيات والقصص القصيرة. ثم مَن أيضًا؟ نعم، كان هناك فاسيليتش، السيد الإقطاعي، المصور الهاوي والمزخرف، والذي كان يجيد تذوق الأسلوب الروسي القديم والروايات الشعبية والملاحم. وكان يصنع المعجزات على الورق والخزف والأطباق المدخنة. ووسط هذه الجماعة الأرستقراطية الحرة التي دللها القدر، وإن كانت مهذبة ومتواضعة، هذه الجماعة التي لم تكن تتذكر وجود أطباء ما إلا ساعة المرض، والتي كان اسم ضيموف لا يثير اهتمامها تمامًا كأسماء مثل سيدروف أو ساراتوف … وسط هذه الجماعة كان ضيموف يبدو غريبًا ونشازًا وصغيرًا، رغم أنه كان طويل القامة عريض المنكبين. وبدا كأنه يرتدي حلة ليست له، وأن له لحية خولي. وعمومًا فلو أنه كان كاتبًا أو مصورًا لقالوا إن لحيته تذكر بالأديب زولا.
وكان الممثل يقول لأولجا إيفانوفنا إنها بشعرها الكتاني وفي ثوب الزفاف تشبه إلى حدٍّ كبير شجرة كرز رشيقة عندما تغطيها الأزهار البيضاء الرقيقة تمامًا في الربيع.
وقالت له أولجا إيفانوفنا وهي تقبض على يده: كلا، بل اسمع! كيف أمكن أن يحدث ذلك فجأة؟ اسمع، اسمع… ينبغي أن أقول لك إن أبي كان يعمل مع ضيموف في مستشفًى واحد. وعندما مرض أبي المسكين ظلَّ ضيموف مرابطًا إلى جوار سريره ليل نهار. أوه، يا للتفاني! اسمع يا ريابوفسكي… وأنت يا حضرة الأديب اسمع، فهذا طريف جدًّا. اقترب منا. يا للتفاني والمشاركة المخلصة! أنا أيضًا لم أنم الليالي جالسة بجوار أبي، وفجأة… أهلًا، انتصرت على الفارس الشجاع! غرق ضيموف في حبي حتى أذنيه. حقًّا، ما أغرب تصاريف القدر. حسنًا، بعد وفاة والدي كان يزورني أحيانًا ويلقاني في الشارع، وذات مساء رائع، هوب! طلب يدي… وكان لذلك وقع الصاعقة عليَّ … قضيت الليل كله في النحيب ووجدت نفسي أحبه بجنون. وها قد أصبحت كما ترون زوجة. أليس صحيحًا أن فيه شيئًا ما قويًّا، هائلًا، شيئًا من الدببة؟ إن وجهه الآن لا يبدو لنا من هنا كاملًا، والإضاءة ضعيفة، ولكن عندما يلتفت انظروا إلى جبينه. ماذا تقول في هذا الجبين يا ريابوفسكي؟ ـ وصاحت بزوجها ـ يا ضيموف، إننا نتحدث عنك! تعالَ هنا. مد يدك الشريفة إلى ريابوفسكي… نعم، هكذا. فلتكونا صديقين.
ومد ضيموف يده إلى ريابوفسكي وهو يبتسم ببشاشة وسذاجة وقال: سعيد جدًّا. لقد تخرج معي شخص يُدعى ريابوفسكي، أليس قريبك؟