المجرب سيجرب بمباركتكم

المرجعية انتقدت الفساد وليس الفاسدين وايدت النزاهة وليس النزيهين. بمعنى آخر امسكت العصا من المنتصف وفسرت الماء بالماء. لا تريد ان تقول ان الشيعة هم المسؤولون عن الفساد في العراق.

واخيرا انهت المرجعية الجدل الذي دار لاسابيع حول تفسير مقولتها المجرب لا يجرب والتي حاول فريق سياسي تأويلها بما يتناسب مع توجهاته، الا ان تفسيرها جاء محبطا للذين تأملوا بان ترفع المرجعية حمايتها عن الكتل السياسية التي تبنتها منذ 2003 ولغاية يومنا هذا . فقد أمسكت العصا من المنتصف كعادتها وفسرت الماء بالماء كي تتجنب احراج الاحزاب الشيعية العراقية التي تسببت في مجمل الفساد المتفشي في مؤسسات واجهزة الدولة العراقية.

هناك حقيقة لا يمكن التهرب منها وهي ان الاحزاب الشيعية هي من اكثر الاطراف السياسية العراقية فسادا كونها المسيطرة على مفاصل الدولة وتتمتع بالحماية والحصانة من اية مسائلة، عكس الاحزاب السنية التي استبعد الكثير من ساساتها بتهم فساد ملفقة غير صحيحة. وحتى لو حاول السياسي السني الانخراط في معهد الفساد العراقي فلن يكون بمقدوره ذلك الا بالتنسيق مع احزاب شيعية متحكمة. لذلك فالمسؤولية الاكبر في محاربة الفساد والفاسدين تقع على عاتق الشارع الشيعي وليس السني. والسؤال هنا: هل ان توضيح المرجعية هذا كافٍ كي يستدل المواطن العراقي على القوائم الفاسدة ولا يصوت لها في الانتخابات القادمة؟

اكدت المرجعية في توضيحها على انها تقف على مسافة واحدة من كل القوائم، وان العبرة هي في النزاهة والكفاءة والالتزام بالقيم والمبادئ والابتعاد عن الاجندات الاجنبية واخيرا احترام القانون والاستعداد للتضحية في سبيل انقاذ الوطن، وحث الناخبين على الاطلاع على المسيرة العملية للمرشح خاصة اولئك الذين كانوا في مواقع المسؤولية في الدورات السابقة. وهكذا فان المرجعية انتقدت الفساد وليس الفاسدين وايدت النزاهة وليس النزيهين، وعلى المواطن المسكين الذي يفتقر الى اليات تحديد الفساد والمفسدين وفرز النزيهين ان يفعل مداركه لترشيح النزيه ورفض الفاسد وهو شيء اشبه بالمستحيل.

لقد مهدت مصادر بارزة في مكتب السيستاني قبل ايام لهذا الموقف الضبابي بقولها ان المرجعية لا تزج بنفسها في تفاصيل العملية الانتخابية بل هي توجه الناخب لاختيار الاصلح بشكل عام وبانها لا تدعم كتلة ضد كتلة، لذلك فان موقف المرجعية هذا لم يكن مفاجئا بل كان متوقعا منذ ايام. والسؤال هنا يكون: لماذا لم تتخذ المرجعية نفس الموقف في انتخابات 2006 و2010، ولماذا زجت بنفسها انذاك في تفاصيل العملية السياسية بتبنيها قائمة 55 في الاولى وقائمة الشمعة في الثانية، وتحجم اليوم بالخوض في تفاصيل العملية الانتخابية اليوم بعدما اشتد عود الفاسدين ولم يعد بامكان الشعب العراقي التخلص منهم، الم يكن موقفها حينها ايضا تدخلا في تفاصيل العملية السياسية وسببا مباشرا لسيطرة الفاسدين على مفاصل الدولة ومؤسساتها وتواطئا مباشرا معهم؟

يبدو ان المرجعية لا تعي الفرق بين ما هو ديني وما هو سياسي، والا فان محاربة الفاسدين (وليس الفساد فحسب) هو من صميم اختصاصات المرجعيات الدينية، ولا تعتبر تدخلا في السياسة لا من قريب ولا من بعيد، كي تتخذه المرجعية مبررا للنأي بنفسها عن محاربته.

ان الهدف من هذا الموقف الضبابي هو ترك الفاسدين يعبثون باموال الدولة لاربع سنوات قادمة، واستكمال لما دأبت عليه المرجعية وجهات اقليمية في اضعاف العراق سياسيا واقتصاديا بل وحتى امنيا. فتبني الفاسدين وتبني قوائمهم الانتخابية في بداية العملية السياسية ثم تركهم دون محاسبة مثلما تفعل في هذه الانتخابات هو تدمير سياسي واقتصادي للعراق. اما التدمير الامني فكان باصدارها فتوى الجهاد الكفائي مع دخول داعش للعراق وتشكيل مليشيات الحشد الشعبي، التي اضحت اليوم بعد القضاء على داعش واغماض العين عن تبعات استمرارها، والاحجام عن اصدار فتوى جديدة تحل بموجبها هذه المليشيات، سببا من اسباب الدمار الامني والعسكري لهذا البلد. على هذا الاساس فنحن امام احتمالين: اما ان المرجعية تفتقر الى البصيرة والنظرة السياسية والدينية الصحيحة وهي مصيبة بحد ذاتها؛ او انها تعرف تماما ماذا تفعل لكنها تتقصده وهذه مصيبة اكبر. وفي كلا الحالتين فالساكت عن الحق شيطان اخرس.