الموسيقى بدلا عن الانفجارات في شوارع العراق

لا صوت يعلو على صوت الفرح

بغداد - اعتاد العراقيون خلال السنوات الماضية على صدمة المفخخات والهجمات المسلحة، لكن هذه المرة كانوا على موعد مع مفاجأة سارة بالموسيقى والرقص.

وانطلقت مجموعة شابة من أصحاب المواهب في حملة تحت عنوان "فلاش موب"، في مسعى لإرساء الخطوات الأولى لنشر الموسيقى والرقص في شوارع البلاد، بدلاً من مفخخات الموت لتغيير الصورة القاتمة التي ارتسمت لسنوات.

فكرة فنية معاصرة

عازف الكمان والتشيلو الشاب أمين مقداد (29 عاما) والذي عاش أياماً عصيبة وقاسية إبان سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على مدينته الموصل أحد الأعضاء الفاعلين في المبادرة، يقول "نحن مجموعة صغيرة تتألف من ممثل وعازف دف ورسام، بالإضافة إلي عزفه على الكمان".

وتقوم فكرة الفرقة على إقامة عروض موسيقية أو فنية بشكل مفاجئ وبدون سابق إنذار للمحيطين في أي موقع تختاره في العراق.

وتبدو هذه الفكرة غير مألوفة في العراق، حيث تتصدر المناسبات الدينية المشهد في المدن، وخاصة منذ تقلد الأحزاب الدينية، ولا سيما الشيعية، منها لسدة الحكم، عقب الإطاحة بالنظام السابق في 2003 على يد قوات دولية قادتها الولايات المتحدة الأميركية.

فعلى مدار العام، يمكن للمرء أن يرى مراراً وتكراراً الحشود المتشحة بالسواد وهي تحيي المناسبات الدينية أو تزور الأضرحة المقدسة في بغداد وبقية المدن، لكن نادراً جداً، بل وربما لا يمكن مشاهدة حفل غنائي في الهواء الطلق.

ويعترف علي تقي (20 سنة)، وهو ممثل مسرحي ويجيد الرقص التعبيري، بأن ما يفعلونه يثير الغرابة في الكثير من الأحيان، لكنه يجد في ذلك سعادة ومتعة في آن واحد.

ويقول تقي إن الموسيقى تتكلم أكثر من الحوار، ودائما نقوم بعمل "فلاش موب" في الشارع وما أن أسمع الموسيقى أشعر أن جسدي يستجيب لها بحركات تعبيرية بالرغم من النظرات الغريبة التي تحيط بي من الآخرين، لكني واثق تماما أنهم يستمتعون بذلك مثلي.

رسالة سلام ضد العنف والتطرف

وللسنة العاشرة على التوالي، حلت مدينة بغداد في المرتبة الأخيرة من التصنيف العالمي للدول التي توفر أفضل نوعية عيش للعام 2017، الذي تعده شركة "ميرسر" الأميركية.

ويضع الترتيب عدة مقاييس تتعلق بالأمن الاستقرار السياسي ومعدل الجريمة وتطبيق القوانين والعلاقات بين الدول المضيفة والدول الأخرى.

ومعظم مناطق البلاد الأخرى ليست أفضل حالاً من بغداد، حيث التفجيرات وأعمال العنف شبه اليومية مستمرة منذ سنوات طويلة.

لكن وتيرة أعمال العنف تصاعدت على نحو مخيف منذ بروز تنظيم داعش وسيطرته، على مدى ثلاث سنوات، على ثلث مساحة العراق، حيث تحولت تلك المناطق لساحة حرب طاحنة انتهت أواخر العام الماضي بهزيمة التنظيم.

ويقول العازف أمين مقداد، الذي بدا هادئاً ومبتسماً رغم ما عاصره من حقبة داعش في الموصل: نواجه الإرث السيء من الفكر الداعشي، ونواجه الكثير من أصحاب الأفكار السلبية خصوصاً المنشغلين بانتقاد الآخر والمجتمع.

متعمقاً في تفاصيل الفكرة أكثر، يقول الممثل وعازف الدف والطالب في كلية الفنون الجميلة أحمد توفيق (21 سنة): نحاول زيادة الوعي والثقافة من خلال الفن ونشبع المجتمع بالفن.

ويضيف: نعتمد على فكرة تغيير الشعوب بالفن وأن نُسمع الناس أصواتاً أخرى افتقدوها منذ زمن طويل تقودهم بعيداً عن أصوات البارود والانفجارات، وأصوات تصريحات "حيتان الفساد والسياسيين الكاذبين".

ويكمل توفيق، وهو يلوح بيديه بآلة الدف: من خلال الموسيقى والرقص نحاول ترسيخ رسائل السلام للناس.

ويمضي قائلاً: نريد إيصال رسائل للعالم أيضا أننا في العراق لدينا فن متنوع ومختلف وبإمكاننا النزول فيه إلى الشارع.

مضايقات أمنية

وعن أهم الأماكن التي زارتها الفرقة، يقول مقداد: يوم السبت من كل أسبوع نختار ساحة في بغداد، ومنها ساحة التحرير الشهيرة أو حتى داخل الحافلات الكبيرة لتقديم العروض، ومن ثم نقلنا العروض لمحافظات أخرى في البصرة والموصل وأربيل.

ويوضح مقداد "المهمة بالرغم من رسالتها الإيجابية وتفاعل المجتمع معها إلا انها لم تكن سهلة أبدا، فعادة يساء الظن بالفريق الفني من قبل بعض رجال الأمن"، كما يوضح مقداد.

ويضيف "كنا نتعرض لمضايقات من رجال الأمن، إذ يتخوفون من الأمر، وإن كان بعضهم يتعاطف مع هذا الفن، وكنا نستخدم معهم طريقة الإلهاء لتقديم الفلاش موب خلال دقائق".

ويكمل أحمد توفيق الحديث بالقول: قدمنا نحو 15 فلاش موب في مناطق مختلفة من بغداد وأحيانا نذهب لإقامة النشاط في المراكز التجارية، وأيضاً أقمنا أمسيات مختلفة بدعم من السفارتين الألمانية والفرنسية.

وتعتمد فكرة "موب فلاش" على عنصر مفاجأة الجمهور، وهو الأمر الذي لا يرقى للسلطات الأمنية التي تطلب موافقات مسبقة من الجهات المختصة قبل تنظيم أي عروض في الشوارع.

تفاعل اجتماعي

يحاول أبو أحمد، وهو صاحب كشك لبيع العصائر، أن يفهم ما يفعله هؤلاء الشبان. واكتفى بمجاملتهم من بعيد ضاحكاً.

يقول أبو أحمد "لا أفهم هذه الحركات التي يعملونها ولا هذه الموسيقى الغريبة، لكنها جميلة وعفوية".

فيما قال أحد المارة، الذي توقف لبرهة قبل أن يكمل طريقه، "افتقدنا الحياة والموسيقى والفن منذ سنوات، ونحن بحاجة إليها عشرات المرات يوميا".

ويضيف "ربما قد يساعدنا ذلك على أن ننسى ما عشناه من بؤس.. وربما لا".