النساء صناديق حكايات


ميل إنعام كجه جي إلى صاحبات التجارب الثرية هو نوع من النبش في خزائن منزلية، "دواليب" تعرضت للسرقة، بحثا عما في الجوارير من كنوز لم تصل لها أيدي اللصوص. تقول: كل عجوز هي تاريخ ناطق للذي مازال يكتب.

ارتقت بخطوات متأنية وحذرة من دون أن تفقد رباطة جأشها منصة الحافلة في أناقة مفرطة وفي نهار صيفي نادر في لندن، فشدت إليها العيون بما فيها سائق الحافلة، فهذه السيدة اقتربت من عقدها التسعيني لكنها بقيت محافظة على حيويتها، توقعت أن الجميع تبادر لهم نفس السؤال الذي صعد إلى ذهني بشأن إصرارها على أناقة كلاسيكية في يومي بريطاني مشمس يدخل تاريخ الطقس!

اتخذت من المقعد المجاور لي مكانا لها، فيما عادت عيون الركاب تتأمل الطريق وابتهاج الناس بالشمس حتى صعد صبيّان الحافلة، كانا احتفالهما بالطقس أكثر من مبالغ فيه، فلم يبقيا على جسديهما غير سروال قصير مثل سباحين، ولم تكن ثمة مفاجأة في الأمر، التعري في طقس نادر فرصة ينتهزها البريطانيون رجالا ونساء دون وجل.

بادرتُ السيدة بالسؤال: هل كان أبناء جيلك من البريطانيين يجرؤون على مثل هذا الفعل من دون أن يشعروا بالتعدي على الأخلاق الحميدة! ردت وكأنها متهيئة لمثل هذا السؤال بالقول، ليس كما فعل الصبيان، ربما كنا أكثر كياسة من الجيل الحالي الذي صار محظوظا في فرص الحياة أكثر منا، كانت حياتنا أكثر بساطة لكنها أكثر إنتاجا واهتماما على عكس الجيل المعاصر الذي تأتيه الفرص على هاتفه المحمول.

استمرت السيدة في الكلام وكأنها صندوق حكايات ممتع يدور من دون أن يتوقف حتى وصلت محطتها واستأذنت بالنزول متمنية لي يوما سعيدا.

صندوق حكايات آخر كنت أصادفه صباح كل يوم أحد في محطة الحافلة، ثمانينية لا تفرط بأناقتها وموعد الذهاب إلى الكنيسة، عبرت عن استيائها لي وهي ترى متجر الملابس الرياضية قد تحول إلى قصاب، قالت محل لبيع اللحوم، يا للخيبة! ألم يجدوا أفضل من ذلك، كان مظهر الملابس الرياضية يبث فينا الحيوية، ماذا ننتظر من مشهد اللحوم المقطعة!

هكذا بدت لي أولئك النساء مكتبات برائحة الكتب العتيقة، ولأنها ثمينة لم تفقد أهميتها، لكننا في يوم ما سنفقد حكايات الجدات أو بالأصل يغيب مفهوم الجدة عندما يدور صندوق الحكايات بطريقة منافسة لعقارب الساعة، فلا يكون للماضي مكان بين الأجيال القادمة.

الروائية إنعام كجه جي انشغلت بصندوق الحكايات فكانت الجدات بطلات رواياتها الأربع: كاشانية في سواقي القلوب ورحمة في الحفيدة الأميركية ووردية في طشّاري وتاج الملوك في النبيذة، من دون أن تمل من متعة الإصغاء إليهن جميعا وإن عبرن الثمانين.

فسرت لي ذلك بأن ميلها إلى صاحبات التجارب الثرية هو نوع من النبش في خزائن منزلية، “دواليب” تعرضت للسرقة، بحثا عما في الجوارير من كنوز لم تصل لها أيدي اللصوص. وقالت “كل عجوز هي تاريخ ناطق للذي مازال يكتب يا صديقي”.